نشأة الكنائس الإنجيلية

 

مَنْ كان هنا أولا؟ وكيف أتى الباقون؟ ومتى؟

بالرغم من أننا بشكل عام شعب لا يحب التاريخ ولا يرغب التعامل معه، لكن عندما تضعف الحجة لدينا ، نلجأ للتاريخ لنقوض موقف خصمنا، وهذا يحدث في في كل مجال، في السياسة كما في المجتمع كما في الدين طبعا.

وهذا "سلاح" كما يظن البعض يمكن استخدامه ضد الإنجيليين بكل فعالية. واولئك الذين يؤمنون بفتك هذا السلاح، ينسون أو ربما يجهلون:

  • ·       أن كل ما نجلبه معنا عبر التاريخ، لابد من معالجته وتطويره حتى يساير العصر، لهذا سقطط أمم وقامت أخرى، واندثرت تعاليم ونظريات حياتية وانتعشت أخرى، ولهذا مآل آخرى للسقوط الآن!
  • ·       أننا لم ندعِ بأي شكل من الأشكال أننا أتينا أولا، أو كنا قبل الجميع، لكننا بالتأكيد لنا اتصال بتاريخ المسيحية الذي بدا مع حلول الروح القدس يوم الخمسين.
  • ·       إنّ نَبْش التاريخ، عادة ما يُخرج سلبيات وإيجابيات، ما هو محزن وما هو مُفتَخَر. وهذا لا ينطبق على تاريخ الكنيسة وحسب، بل أي تاريخ، حتى تاريخ عائلاتنا، فكلما عدت في تاريخ عائلتك في القدم، لعلك ستجد أمورا تراها الآن مخزية، محزنة أو مرفوضة!

أبدأُ مِن استغراب الوجود الإنجيلي في المنطقة. بمعنى آخر، وكما يقولها البعض بالعامية "صرلن بالقصر من مبارح العصر!". هذا صحيح، لكنه ليس حصريا. إذ يجب على المستنكر وجود الإنجيليين في المنطقة أن يسأل السؤال عينه عن كل الفئات الكنسيّة والإرسالية الأخرى في المنطقة، ليرى إلى أي "مبارح العصر" ينتمون!

إذا السؤال لدى كثيرين: مَنْ كان هنا أولا؟ وكيف أتى الباقون؟ ومتى؟

واقعياً، أكثر من فئة تقول أنها كانت أولا هنا، والباقون أتوا بعدها! وهذه الـ "بعدها" لا ترتقي فقط إلى خلافات المجمع المسكوني الثالث عام 381، حيث كان النساطرة أول الخوراج. فهي تبدأ هناك، وتمتد بالزمن إلى أواخر أيام العثمانيين.

أما كيف أتى الباقون؟ فهم أتوا:

-        بسبب خلاف داخلي، انقسمت فيه الجماعة على نفسها، لتظهر جماعتان.

-        بسبب مدًّ تبشيري إرسالي، ولا أشير هنا إلى الإنجيليين وحسب.

-        بسبب الحروب والتبدلات السياسية، كما حصل مثلا نتيجة الحروب الصليبية.

أما في عالم القرن الحادي والعشرين، فلست أدري إن كنا سنستطيع الاستمرار في استخدام نفس الأسئلة هذه، في عصر سقطت فيه إن لم يكن كل، فمعظم الحواجز والموانع!

أنتقلُ إلى نشأة الإنجيليين.

عادة ما يبدأ كثيرون التأريخ لحركة الاحتجاج "البروتستانت" من مارتن لوثر (1483-1546)، الذي كان راهبا أوغسطينيا، ومُدرِّساً للاهوت. ولا يتوانى المؤرخون عن الإشارة إلى جون كالفن (1509-1564) وهولدريخ زوينغلي (1484-1531) وسواهم، الذين كانوا معاصرين للوثر، لكنهم انتموا جغرافيا إلى مناطق مختلفة متباعدة. وهذا يشير إلى أمرين اثنين على الأقل:

-        إن ظهور هذه الأسماء الثلاثة على الأقل في أماكن مختلفة، وحتما هناك أسماء كثيرة أخرى، يؤكد أن موجة جديدة كانت تجتاح أوروبا، وكلنا يعرف أن أوروبا بين القرون 14-16 كانت تخرج من عصر ظلمة. ولا نُعمّق خلافا طائفيا بقولنا إنّ عصر الظلمة ذاك كان قد أصاب الكنيسة أيضا، بِنِسَبٍ نَختلف عليها. وعليه كما انبرى علماء يعيدون قراءة أمور الفلك، وسواهم الطب، وسواهم الأدب والفلسفة، انبرى آخرون يعيدون قراءة إرث الكنيسة وطريقة حياتها.

-        إن ظهور هذه الأسماء بدون الاتصال والتنسيق بينها مسبقا، يطرح سؤالا هاما مفاده: هل سبق هؤلاء أشخاص آخرون "احتجوا" أو ناقشوا أو قدموا بدائل لما هو سائد في الكنيسة حتى ذلك العصر؟ والجواب ببساطة نعم.

نعم، لقد وُجِدَ في الكنيسة – الكنائس على مر العصور رجال وحركات تعترض على واقع معين، منهم من عرض لأمور عسيرة جدا، حكمت عليهم الكنيسة بالهرطقة وما يترتب عليه ...، ومنهم من كان اعتراضه أقل حدة فتم استيعابه أو أحدث تغييرا بسيطا.

لم يحدث هذا مع من تم تسميتهم أو إلحاقهم بالإنجيليين فقط ، بل حتى مع أولئك الذين بدأوا مثلا مع الكنيسة في الغرب واستمروا معها. فكثير من حركات الرهبنة بدأت كرد فعل على سلبية معينة، إهمال ما، نظرة جديدة أو خاصة لخدمة محددة، كما حدث في نشأة الرهبنة البندكتية والدومينيكانية والفرنسسكانية ومعظم الأخويات.

أما من الطرف الآخر، فلدينا كما أشرت:

جون ويكليف (1328-1384) في أنكلترا

جون هس (1373-1415) في بوهيميا

سافونارولا (1452-1498) في فلورنسا

جون روتشلين (1455-1522) كان عالما على مستوى أوروبا

ديزيدريوس إيرازموس (1466-1536) كان عالما على مستوى أوروبا

جان فليب ميلانكثون (1497-1560) ألمانيا

وأسماء كثيرة أخرى. بعض من هؤلاء كانوا كهنة أو رهبانا، وبعضهم كان رجال علم وباحثين أو مدرسين في الجامعات. لكن يجب ألا ننسى أن اللاهوت في ذلك العصر ما كان تخصصا منفردا عن باقي الاختصاصات، بل كان جزءا من تثقيف علمي شامل يحصل عليه معظم الدارسين.

لم يُعالج هؤلاء كل القضايا التي أصبحت مرتكزات في الفكر الإنجيلي. بل بمقدار ما بدأ عصر النهضة يفتح مجالات جديدة في البحث والتفكير والنقاش، أخذ كل منهم يناقش فكرة تلفت انتباهه أثناء ابحاثه.

فهذا بدأ يتساءل: لماذا نتبنى النص اللاتيني للكتاب المقدس، بينما النصين العبري واليوناني بين يدينا؟

وآخر استفسر: إذا كانت الترجمة اللاتينية التي لدينا تعود للقرن الخامس، ألا يمكننا اليوم أن ننجز ترجمة أحدث؟

وآخر تأمَّلَ في مبدأ أو طريقة تتبناها الكنيسة وسأل بخصوصها: مِن أين أتت هذه العادة؟ كيف تَبنَّيْنا هذا الرأي؟

وآخرون "تمادوا" فسألوا عن امكانية تحريك مواقع بعض الخطوط الحمر: مِنْ نحو أقصد هل يمكنني أن أرفض هذا؟ لماذا لا يحق لي أن أمتنع عن ذاك؟

إلى آخره من أبواب فُتحت، وجدوا خلفها أبوابا وأبواب، فاستمروا بتعقبها، إلى أن جاء مَن نَظَّم ومَنْهَجَ ما قِيل وما تم استنتاجه، كما فعل مثلا لوثر وكالفن وسواهم.

 

ومن هنا كان طبيعيا أنّ ما نظّمه ومَنْهَجَه لوثر ومن معه مثلا، اختلف عمّا برمجه كالفن ومن معه، وسواهم وسواهم، فكانت الكنيسة – الكنائس الإنجيلية متنوعة ملونة.

 

حلب 25 حزيران 2010