العروبة مشكلة العرب اليوم

لا ريب في أن المشكلة السورية في العقد الثاني من هذا القرن مركبة تركيبا شديد التعقيد، ولا شك أن خلاصة صراعات دولية وإقليمية يجري عصرها على الأرض السورية وفوق رؤوسنا، ولا خلاف أن التململ الداخلي كان تربة أكثر من خصبة لما ظهر حتى الآن من أسباب وعوامل للصراع – الصراعات وما خفي أيضا!

ومن بين العوامل الكثيرة التي تتفاعل في نفخ وتأزيم المشكلة السورية عاملان متلازمان إلى حد كبير، هما: الإسلام والعروبة. وهنا لن أتحدث عن الإسلام كمادة فاعلة وشديدة الاشتعال في الأزمة، حتى أترك المجال للحديث عن رديفه الآخر في هذه الأزمة، وهو العروبة أو القومية العربية.

فإضافة إلى عشرات الأسباب التي تدفع ما يُسمى "البلاد العربية"، لتصارع بعضها البعض بشكل مباشر أو غير مباشر، هناك صراع حول اثبات وجود العروبة وتأكيد تجذّرها. فالعروبة أو القومية العربية، بحسب المصطلحات القومية الحديثة، بدأ إيقاظها مع نهاية القرن التاسع عشر، أيام بدأ منظروها من العرب والمسيحيين منهم بشكل خاص، بإيقاظها من مُخدِّر العَثْمَنة، حالمين بقيام كيان "عربي" كبير. فانقضت محاولاتهم على غير توقعاتهم وأحلامهم بدويلات وإمارات وعشائريات تدعو للعجب. واستمر الحلم "المكسّر" على مدار قرن – من انهيار المملكة العثمانية حتى الآن، وأنا أعتقد أن العرب أو الشعوب العربية أو الدول والدويلات العربية تصارع بوعي أو بلا وعي، على هذا الخط. وعلى ما يبدو، فإن خاتمة المأساة السورية، ستكون خاتمة لقرن من فكر عروبي، وفاتحة لقرن آخر من فكر عروبي.

وهذا الصراع والخاتمة التي يرسمها والبداية التي يُمهد لها، له محركاته الخفية والعلنية، منها:

نكران الداء، وهو حلم كاذب بسيادة عربية غير منقطعة. نعم بدأت القصة مع الإسلام عربية الميل، لكن سرعان ما تحول الحكم إلى إسلامي عربي، حتى أواسط المملكة العباسية، لتبدأ الحكومة تحولها إلى إسلامية شعوبية، ومع هذا التحول بدأ سقوط الحكومة العربية، وإن استمر رأسها "الخليفة" عربيا لأكثر من مائتي سنة أخرى، إلا أن واقع حكمها كان غير عربي، بل وراح بتعمّد يجمح بعيدا عن العرب!

ثم ما لبث الحكم أن تحول إلى إسلامي عثماني، وانقطع مع هذا التحول حلم أي حكم عربي لا "يَتَعَثْمَن" شكلا ومضمونا. وهكذا إلى أن استيقظنا مع غير المسلمين وغير العرب، فانتفضنا عليهم، وحققنا حلما ممسوخا، قوامه دولا لا يجمعها سوى نطق لغة مكتوبة غير محكية، لأنها اختلفت على كل شيء ما عدا اللغة!

إننا هنا ننتحدث عن حوالي ثمانية قرون، من التبعية العربية لشعوبية إسلامية أو لعثمانية إسلامية، مما يعني أننا نتحدث عن فراغ حقيقي وكبير في العقلية العربية الحاكمة والمؤسِّسة للدولة. وهنا تكمن المشكلة: عدم الاعتراف بالحقيقة، وهذا النكران يولد مشكلتين: الأولى عنجهية وعجرفة سيأتي وصفها لاحقا، الثانية عدم توفر العلاجات، لسبب نكران الداء، وحاملو الحلم العربي "داؤهم" أنهم مايزالون يحملون حلما بالمعنى الحرفي للكلمة، أو إن شئت ما يزال في معظم مكوناته حلما!

المحرك الثاني للصراع يتمثل في قادة فاشلين وأحزاب محكوم عليها بالاعدام: لم يحمل قرن العرب الذي تحدثنا عنه، قادة استطاعوا أن يحققوا للعروبة أو لشعوب دولتهم ما يُذكر بحق، ويُسجل بسجل الانجازات! فالغالبية الساحقة من القادة الذين عبروا على قيادة ما نسميه الدول العربية، كانوا أناسا عاديين استلموا مناصب غير عادية، أو كانوا أناسا عاديين صنعتهم لحظة تاريخية عبرت بهم "صدفة" مثل جمال عبد الناصر. فمرور شخصيات نادرة، تملك من الصفات القيادة والرؤيا الاستراتيجية للفكر العربي والتحديات التي تقف دونه، لم يكن كافيا في إعادة بناء فكر عروبي سليم ومتجانس.

هذا العامل وسواه كانت أسبابا كفيلة في الحفاظ على قرار إعدام الأحزاب والحياة الحزبية، مما أنتج وبشكل دائم ومستمر شخصية وطنية عربية وفوقها شخصية قومية عربية، وبالتالي شخصية الدول العربية، لا تعدو أن تكون حالات سياسية عسيرة التعريف والتوصيف، إن لم تكن مستحيلة. صحيح أن بعض الأحزاب استطاعت أن "تنجو" بالرغم من قرارا الإعدام شنقا حتى الموت، لكنها لم تكن أكثر من كائنات سياسية تقبع في العناية الفائقة، حية لكنها لا تقوى على الحياة.

المحرك الثالث للصراع تكمن قوته في عنجهية عربية متضخمة: لقد كانت النار التي أوقدها منظروا القومية العربية في نهاية القرن التاسع عشر، قوية جعلت القدر يغلي ويكاد ينفجر من الغليان، فتضخمت الشخصية العربية في رؤوس حامليها، وارتفعت عن الأرض حتى رأت كل من حولها ممن لا يطابق لونه لون العروبة صعلوكا، وكل من لا يقبل العروبة لغة وجنسية وقومية وفكرا وسياسية إنما هو عميل، فاحتقر العرب الذين أمسكوا بالحكم بعد طول انتظار غير العرب، وفي كثير من المرات اضطهدوهم بعنف، فلم يعد يتجاسر قبطي أو كردي أو أمازيغي أو طوارقي أو أرمني أو تركماني أو سرياني أو آشوري أو كلداني أن يلمح ولو تلميحا لصفة أو ميزة من ميزات إثنيته أو قوميته.

وفي كثير من بقاع العرب منعت لغات أولئك، وأهملت سماتهم الاجتماعية والثقافية وسواها من تطبيقات لإرضاء العنجهية العربية الجائعة، التي لم تستفق إلا بعد عدة صفعات، بدأت صغيرة مع حديث بعض موارنة لبنان عن شخصية لبنانية أو فينيقية وليس عربية، وأحاديث مشابهة من قبل أمازيغ الجزائر والمغرب، لحقتها صفعات أكبر تمثلت بتحول الحالة الكردية في شمال العراق إلى ما يشبه الحكم الذاتي، ليلوح فيما بعد إلى إقليم مستقل، لتأتي صفعة القرن ليس بصراع في السودان، بل بانقسام السودان ليس على الطريقة اليمنية، بل إلى دولة عربية وأخرى غير عربية! والغريب أن بعض العرب – بغفلة منهم أو بدون وعي - يعتقد أن الصراع في السودان كان مسيحيا إسلاميا! نعم، هو كان كذلك في بعض وجوهه، خاصة منذ تحدى جعفر النميري المغرور بتطبيق الشريعة الإسلامية على بلد أكثر من نصف سكانه غير مسلمين! لكنه واقعا ونتيجة ليس هو كذلك.

المحرك الرابع للصراع يتمثل باصطناع وطنيات وهمية: هل تصدقون حقا أن هناك دولا عربية مستقلة لها شخصياتها المتمايزة والمتجذرة في التاريخ؟ وأنا لا أسأل هذا السؤال لأنني تلقنت المبادئ البعثية في سوريا، وأتبنى فكره عن الوحدة العربية. لكنني أسأل السؤال من واقع حقيقي عملي ومتجذر في التاريخ والجغرافيا.

فكيف بات يعقل وفجأة، وبعد بضعة مئات من السنين، أن مجموع القرى القابعة على الحدود السورية الأردنية مثلا، تمثّل شعبين في دولتين منفصلتين وكيانين مختلفين كليا؟ فهؤلاء يتحدثون عن "سوريتهم" التي سيموتون من أجلها حتى ولو اضطر الأمر ضد القابعين جنوبهم، وأولئك يتحدثون عن "أردنيتهم" التي سيموتون من أجلها حتى ولو اضطر الأمر ضد القابعين شمالهم! أليس الأمر عينه مع القرى والعائلات على الحدود السورية اللبنانية؟ أليس الأمر عينه مع العشائر التي تنتشر على طرفي الحدود العراقية السورية؟ أنا شخصيا لا أعقتد أن أحدا من تلك العشائر له انتماء إلى سوريا أو العراق أكثر من انتمائه لعشيرته التي بعضها وبعضها الآخر على طرفي الخط الوهمي الذي اسمه الحدود الدولية! ثم ينطلق من انتمائه العشائري هذا إلى البقعة الجغرافية الأكبر التي تمثل ما شئت من اسم لدولة بالنتيجة هي "عربية".

في الواقع كم أدهشني مقدار الاجراءات المتعمدة لجعل عبور الحدود من دولة عربية إلى دولة عربية يبدو كأنه عبور إلى دولة غريبة وبعيدة! والواقع كلها أشبه بالحمل الكاذب، فلا جنين ولا جديد بل مجموعة حركات بهلوانية لاظهار تضخمات في البطن، كأنه حمل حقيقي.

وإذا كنا – بلاد الشام والنيل – وبعد أكثر من مائة وخمسين سنة من الحياة السياسية ولو المتعثرة، ننظر إلى دولنا العربية ككيانات غير متكاملة الصورة، بل ومشوهة الواحدة دون الأخرى، فأي كيانات تلك التي تضمها جزيرة العرب؟ وأية حالات دول وهمية مصطنعة هناك؟

المحرك الأخير والعسير الذي يواجه العرب في تثبيت عروبة حكمهم - كان وما يزال إسرائيل: فاجمالي الصراع العربي – الإسرائيلي منذ بداياته خاصة مع الانتداب وحتى اليوم، هو عبارة عن محطات من الفشل التي لم يكتب ولا لواحدة منها النجاح حتى الآن!

فثقافيا غزت العرب ولم يستطيعواغزوها. واقتصاديا ماتزال تمتص العرب بمعونة شركائها ولم يستطع العرب هزها. وحضاريا استطاعت أن تنسب لنفسها سمات حضارية وتاريخية من كل حدب وصوب وما يزال العرب غير منتبهين، بل ومتلهّين بانتصارات محمد الفاتح وهو أجنبي، ومحمد علي بك الكبير وهو أجنبي أيضا! أما علميا وهنا العرب يصنعون العجائب، فالعلماء العرب في كل بلد ومشفى ومعمل، وفي بلادهم علماء من كل بلد وجنسية ما عدا العرب، بينما علماء إسرائيل فيها وفي كل مكان! أما عسكريا فحدث ولا حرج، ويكفي بعض العرب فخرا أنهم يستأجرون جيوشا مرتزقة ليدافعوا عن بلادهم وشعوبهم! عجيب حقا بطئ العرب في التعلم من أخطاء أنفسهم، بالرغم من مرور جيلين على هذا المشهد المستمر!

لكن بعض العرب الذين أَلِفوا تكرار المشهد كما ألفوا الشمس، ساءلوا أنفسهم: كيف الانتصار على هذا العامل الذي يقض مضاجعنا؟ ببساطة برفع الرايات البيضاء! وعلى كل حال وما عيب إسرائيل؟ وفجأة وجد بعض العرب التعامل مع إسرائيل الصيهونية واليهودية أسهل بكثر من التعامل مع "غير العرب" في بلدانهم! وباتوا مستعدين لقبولها اثنيا وثقافيا وسياسيا و...، بينما إسرائيل نفسها غير قابلة لشيء من هذا عند العرب. أي ذل هذا؟ وهكذا فإن أفضل حل لهذه المشكلة "الصغيرة"، أن نوقف حربنا معها، طبعا نوقف الحرب على كل جبهة، ونقبلها شريكا حقيقيا وكاملا! وهذا سبب وعامل أساس في الاستمرار في تدمير سوريا في هذا الوقت، بأي ثمن وبأية طريقة ومهما كانت نتائج التدمير.

أمام كل هذا ماذا يفعل منظرو العروبة اليوم؟ إنهم يوقعون أنفسهم بنفس الأخطاء التاريخية وأبرزها:

أنهم يستخدمون نفس الحلول القديمة التي لم تجد نفعا في شيء، ومن هذا مثلا إحياء ما يُسمى بالناصرية، دون أن يمتلكوا الجرأة على محاكمة التجربة الناصرية محاكمة عادلة ليتأكدوا إن كانوا يعيدون مضغ طعام فيه غذاء أم هو مجرد قطعة مطاط لا ينتهي مضغها. ومثله أن يستوعب منظرو البعث أنهم لا يستطيعون اللعب وحدهم بالسياسة، وسواها من الحالات القديمة القائمة. هذا من ناحية،

ومن ناحية أخرى يحاولون انقاذ العروبة بأي ثمن مهما كان رخيصا، وبغض النظر عن شكل العروبة التي سيتم انقاذها، فالمهم أن تبقى حية. وهذا يبعدهم عن أي نقاش حضاري، اثني، ثقافي، نقدي للعروبة على الأقل في الماية سنة الأخيرة.

إن استمرار بعض ما نسميه "البلاد العربية" بنفس النهج نحو الحرب في سوريا، يوحي بأننا ذاهبون إلى قرن "عروبي" آخر، لن تختلف فيه مقومات الشخصية والحكم العربي عما عاصرناه في هذا القرن الذي طويناه. لكن التحديات التي سيحضرها القرن الذي فتح أبوابه منذ قليل، لن تقوى عليها هذه الشخصية وحكوماتها.

حلب 21 حزيران 2013