أميركا: أنا صديقة نفسي

من الغريب أن بعض العرب، خاصة من المسؤولين، من ملوك ورؤوساء ووزراء ومتمولين ما يزالون يعولون على أميركا كصديق، معين، ملجأ، منفذ أو منقذ لقضايا المنطقة السياسية منها أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفكشرية وسواها من القضايا الكثيرة التي تتعثر بها منطقتنا.

من الغريب جدا، أنه منذ دخول الولايات المتحدة الأميركية بقوة على محور مجريات ما يُسمى الشرق الأوسط اعتبارا من نهاية الحرب العالمية الثانية، وما جلب معه هذا الدخول من خيبات أمل وخسائر وآلام للعرب على اختلاف "اقطاعياتهم"، وبعض هذا "العرب" ما يزال يراهن على الحكومات الأميركية وسياساتها ووعودها، التي لم تكن يوما أكثر من قنابل صوتية!

من الغريب جدا أن العرب لم يستيقظوا منذ ستين عاما من غيبوبة وعود الحكومات الأميركية الصاعدة، وطعنات الظهر من الحكومات الأميركية النازلة! مع أن السيناريو نفسه يتكرر في كل انتخابات وفي كل تشكيلات رئاسية أو برلمانية لديهم، في الانتخابات يَعِدون العرب، وفي التنصيب يبتسمون للعرب، وفي مباشرة المهام، ينسون ملفات العرب، ليبدأ التنكر لها، ولا تنتهي ولاية الرئاسة أو البرلمان، إلا وكان النهار قد محى كلام الليل!

هل حقا لا يملك العرب ذاكرة؟

ولكن الورق يملك، ففي أوراق مجلس الأمن، أي مجلس الأمم الذي استُحدث بعد الحرب العالمية الثانية لنصرة الضعيف، واعانة الدول والشعوب خاصة الواقعة تحت احتلال أو ظلم ما، والذي يقوم على مبدإٍ ظالمٍ حتى النهاية وهو حق النقض "الفيتو"، ذاكرة هذه الأوراق تخبرنا أن أميركا صديقتنا استخدمت حق الفيتو ثمانين مرة، هل تعرفون أيها العرب كم مرة من الثمانين كانت ضد العرب؟ هل تعرفون يا أصدقاء أميركا كم مرة بصقت أميركا في وجوهنا أمام الملا عن طريق حق النقض هذا؟

عفوا !

ذاكرة العرب متخصصة بالخيول والسيوف وعنترة وترّهات الجواري والحسان، حتى لم تبق امكانية تخزينية لإحصاء تلك البصقات! لقد اعترضت أميركا "صديقة" العرب الوفية /42/ اثنتين وأربعين مرة من أصل ثمانين مرة! يا لعار العرب، يا لخزينا!

أربعون مرة استخدمت الفيتو من أجل قضايا العالم الأخرى، أي قضايا مائتي دولة، وأربعون مرة من أجل قضية عشرين دولة!

اثنتان وأربعون نقضا "فيتو" ضد العرب، وقضاياهم، وطبعا خاصة فلسطين التي ما بقي منها لدى كثير من العرب سوى بضعة أناشيد وكثير من لوحات تذكارية.

هل يكذب الورق؟

لنسأل بعضنا بعضا، نحن الذين عايشنا حروب العرب، المخزية منها والمشرفة، من 1948 إلى 1956 إلى 1967 إلى 1973 إلى 1982، هذا ما عدا الثورات والانتفاضات وحروب الاستنزاف والمناوشات وسواها وسواها، في أي منها وقفت أميركا إلى جانب العرب؟ بل في أي منها وقفت الصديقة العزيزة على الحياد؟ والجواب ببساطة على كلا السؤالين: ولا واحدة!

مَن مِن العقلاء الفهماء الشرفاء الكرماء من أصحاب النخوة يصادق شخصا خذله في كل مِـحَنِه الكبرى وأزماته الصغرى، بل كثيرا ما ساومه على حياته وكيانه وكينونته ووجوده؟ الجواب واحد وبسيط: إنهم العرب!

لهذا رعت الحكومات الأميركية بنشاط أوسلو ومدريد وفك الارتباط وربط الارتباط، حل العقدات وربط الأزمات، وكامب ديفيد على اختلاف خلاصاته ... وأرسلت المبعوثين واستقبلت المندوبين، وشكلت لجان، وطبعت وديعة رابين ... ثم نقعت كل الأوراق التي نتجت عن كل ما سبق على مدار عشرات السنين التي تطلبت صناعة ذلك كله وأشرَبَتِ العرب ماءه وقالت لهم: روحوا بلطوا البحر. وراح العرب الشاطرين وبلطوا البحور المطلين عليها، وصمموا على استعادة حقوقهم خاصة في فلسطين اعتبارا من بلاط البحر الجديد!

يا للعرب المساكين، وقلوبهم الطيبة الطرية، وعقولهم العصفورية الحجم والمفعول، ومشغوليتهم الكبرى اليوم مساعدة الصديقة الحميمة على بث الديموقراطية ومحاربة الأنظمة الفاسدة لديهم.

طبعا الشعوب العربية لم تنتبه إلى فساد حكامها، لأنها كانت مشغولة بعدد الدبابيس وطريقة توزيعها على المئتي مليون عربي لينخزوا بها الإسرائيليين الأشرار ويرمونهم في البحر، ولأن الحسابات عسيرة بعض الشيء، تأخروا حتى صار تعدادنا فقط ثلاثماية مليون! ولأنهم ما يزالون يفسرون ولم يفهموا – حتى الآن - الخطط الحربية الفريدة التي طبقها عبد الناصر لخسارة قواته الجوية والبرية في ساعات قليلة.

لهذا لم يتوصل بعض حكام العرب ووزرائهم والمتنفيذين والمتمولين إلى تحليل بعض الأحداث الرائعة التي يصنعها الأميركان من حولهم:

فلم يفهموا كيف استيقظ الأميركان فجأة عام 2003 على فساد نظام صدام حسين، حليفهم في حرب الخليج الأولى، وعلى قتله الأكراد والشيعة، وبالتالي لابد من إزالته، فأزالوه وجعلوا معه العراق "مع وقف التنفيذ" إلى أجل غير مسمى.

ولم يدركوا كيف تنبه الأصدقاء أنفسهم - أيضا فجأة - إلى فساد نظام القذافي وقهره لشعبه، بالرغم من كل الصفقات التي كانت بينهم وبينه، فهبوا اليوم لدحره ونصرة الليبيين، والإسراع في ضمِّهم إلى نادي المديونين للمائة سنة القادمة مع العراق ولبنان وسواها من بلاد العرب المحبة للأميركان!

وفجأة انصدم العرب مع صدمة الأميركان من فساد الحكم في مصر، والأموال "المتلتلة" المكدسة في بنوك أميركا، وسارعوا لإزالته من المشهد وتأييد الديموقراطية الجديدة.

أما السودان فقصة أخرى، أصبحت الآن غنية عن الشرح والبيان.

طبعا، هؤلاء العرب الذين نتحدث عنهم، كالأميركيين لا يستطيعون النظر باتجاه الشرق لأن الشمس تؤذي عيونهم، لهذا لا يستطيعون أن يروا ما يُمارس من قمع ووحشية وفساد في السعودية وبعض دول الخليج. وعلاجهم في الواقع أن يديروا ظهورهم للشرق وينظروا للغرب، ليروا سوريا وانتهاكاتها لكل ما هو إنساني وبشري وآدمي ...

لا تستطيع ذاكرة العرب أن تتحمل تحليل ما ترتب عن كل تدخل أميركي حول العالم، وما ترك خلفه من دمار وخراب وفساد وأذية مثل هيروشيما، فيتنام، أفغانستان، معظم أميركا اللاتينية والوسطى، والعراق وأبو غريب ...

لكن ذاكرة السوريين لا يفوتها

أن الرئيس السوري كان الوحيد الذي لم يُقبِّل عتبات الباب العالي ويسترضي وجهه، وعندما اضطره الأمر لمقابلة على مستوى القمة لم يجرها إلا في سويسرا.

وأن المبعوثين الخاصين والعامين، الرفيعي المستوى أو الثخيني المستوى خرجوا بمجملهم غير راضين من مقابلاتهم في سوريا، لأنهم لم يحصلوا على التواقيع التي يحتاجونها.

وذاكرتي ايضا تذكر اعتذارات الأميركيين الذين زاروني خاصة خلال فترة ولاية جورج بوش ونهاية تلك الولاية المشؤومة، عن تصرفات حكومتهم التي تضر ببلادي، ولا تأخذ بعين الاعتبار سوى مصالح تلك الحكومات وبعض الأشخاص فيها. وكيف أجمعوا على أن حكوماتهم المتعاقبة تعمل على جعل أميركا صديقة لنفسها وحسب!

إنني فعلا أعجب للعرب، وتصديقهم لأميركا، وانتظارهم لدورها، وتمنياتهم لتدخلها! هل حقا تعتقدون أيها العرب أن أولئك رسل إحسان، أو أصحاب ماء سبيل لمن يشرب ويدعو لأمواته بدخول الجنة؟

ولأنني لا أصدق هذا، ولا يمكن أن أصدق، كنت أتمنى على حكومتي – وما أزال - أن تستدعي السفير الأميركي لتوبخه على تدخل بلاده السافر في شؤون بلادنا، وتهديده بالطرد إذا ما استمر عرضهم لماء السبيل الذي يحاولون تدمير بلادي بواسطته.

حلب 26 نيسان 2011