كلا و لا

 

لامَني صديق على استخدام حرف النفي "كلَّا" في غير موضعِه المُخصَّص له معنىً، في فقرة مِن بحثي الأخير "الحبُّ بعشرين كلمة وكلمة". على أساس أنَّ "كلاَّ" مُتخصصة بالزَّجر، وليس بالنفي العادي أو اللطيف - إنْ جاز التعبير - أمّا رَدِّي فهو:

مَنْ قال إنَّنا مُلزمون باستخدام كلمةٍ أو اشتقاقٍ لغوي دَرَجَ العربُ أو ربَّما بعضُهم على استخدامِهِ منذ ما يُقارب خمسة أو عشرة أو خمسة عشر قرناً؟ أَلَمْ تَتغيَّر طرقُ وأساليب الحياة والتعبير عبر مئات السنين الماضية؟

نَحَتَ العربُ – كما كل الشعوب الأخرى – لأسبابٍ معيّنة ونتيجة لخبرات مُحدّدة كَلَمةً أو كلماتٍ عَبَّروا بها عن تلك الحالات وأسبابها، فماذا عن أسبابِ اليوم وخبرات الأمس القريب؟

مثلاً: بنتيجةِ طَريقةِ حياة أو حاجة معيّنة مُتعلِّقة بتربية بعض الحيوانات، أو بنتيجة العيش في الخيام، أو العيش في عمق البادية أو على شطوط شريانات الحياة، ابتدعوا كلماتٍ جديدة، ثمَّ أظهروا بعضَ مهاراتِهم، بعملِ اشتقاقاتٍ جميلة مِنْ بعض ما ابْتَدَعوا مِنْ كلمات. ثُم انقلَبَتِ الدُّنيا، وتغيَّرتِ الحال، فصِرْنا نسكنُ بيوتاً بيتونية، ونَتَنَّقل بِراحِلاتٍ معدنية، ويلعبُ أولادنا بألعابٍ الكترونية، ونُخَاطِبُ بعضنا بعضاً بكلماتٍ تَرميها أجهزةٌ أَصغر مِن راحةِ الكفِّ في الفضاء!

وعلى المِنوالِ عينِهِ، ماذا عنْ آلافِ الكلمات والاشتقاقات التي أَقلَعْنا عنها وأهملْنَاها، بل ونَستهجن استخدامَ بعضِها اليوم؟ إنِّني أعتقدُ أنَّ أيَّ عربيّ متوسط المعارِف العامة واللّغوية، سيَجِدُ نفسَهُ أُميّا أو غير عربيّ عند تَصفّحِهِ مُعجماً مِنْ مَعاجِم اللُّغة العربية، وذلك لكَثْرةِ الكلماتِ الواردة فيه التي لا يَعرفُها ولا يَفقَه معناها! إنَّ إِهمالَ تلك الكلمات ومعانيها ليس بالضرورة تَعبير عنْ جَهْلٍ أو إهمالٍ للُّغة، بل لِتغير الحال، وتباعد الاهتمام.

هذا كان رَدِّي وهو ما يزال رأيي. واليوم أُضيفُ إليه ما قالتْ فيه بعضُ مَعاجم اللغة العربية القديمة، والتي تؤكد سلامة استخدامي، وموافقَتِهِ للمعايير المعجمية، وأَقْتبس "حرفيًّا" ما قاله كلٌّ مِنْ تاج العروس ولسان العرب في مادة "كلَّا":

كلّا حرف رَدع وزَجْر، وقد تأتي بمعنى لا كقول الجعدي:

فقلْنا لهم: خَلُّوا النِّساء لأهلِها        فقالوا لنا: كلّا، فقلْنا لهم: بَلى

فكلّا هنا بمعنى لا بدليل قوله: فقلنا لهم: بلى، وبلى لا تأتي إلا بعد نفي. ومثله قوله أيضا:

قُرَيش جِهَازُ الناس حيًّا وميِّتاً         فمن قال: كلّا فالمُكذِّب أكْذَبُ

وعلى هذا يحمل قوله تعالى: "ربي أهانَنِي كلَّا". وفي الحديث: تَقَع فَتِنٌ كأنَّها الظُّلَل، فقال أعرابي: كلَّا يا رسول الله.

وقال ابن الأثير: كلَّا رَدْع في الكلام وتنبيه ومعناه: اِنْتَهِ لا تفعل، إلّا أنَّها آكد في النفي والرَّدع من لا، لزيادة الكاف. وقد ترد بمعنى حقًّا كقوله تعالى: "كلَّا لَئِن لم تَنْتَه لَنَسْفَعن بالناصية".

انتهى الاقتباس. وانتهى الحديث في كلاُّ و لا، بانتظار اقتناع مدرس ابني، كما واضعوا منهجه اللغوي بتليين لاءاتهم قليلا بخصوص تحسين مناهج اللغة العربية.

 

حلب 13 آذار 2011

Write a comment

Comments: 0