أقصى التخلي

 

في احتفال الجمعة العظيمة، يَحتار الإنسان في موضوع الإحتفال. هل يَجعلُ التركيز على نفسِهِ وخطيتِهِ؟ أمْ يَميلُ به إلى الخلاص وما يَحمِلُ مِنْ معانٍ ومَضَامين، ثم يُعرّج على مجانية الخلاص؟ أمْ يَصرف الوقت بالتأمل في ما فَعَلَ ابن الله، وما حاجتُهُ لهذا الفعل؟

في احتفال اليوم، تَمِيلُ الكفّة نحو التأمل والتفكير بابن الله المتجسد، وأيّ قرار عجيب قام به!

حاولْ أنْ تَتخيّل معي يسوع في اللّيلتين الأخيرتين قَبْل الصَلْبِ، كلُّ الدنيا مِن حوله غارقة بتحضيرات العيد وسهرته "الفِصْحيّة" المميزة، والتلاميذ حوله في حيرة وتَشَتّت، لِما يروه من حزن عميق في المُعلِّم، وعدم إدراكٍ لتصريحات غريبة عسيرة الفهم، منذ وصولهم إلى أورشليم مِن أيام قليلة. هذا كلُّه في كفّة، وما كان في داخلة في كفة أخرى!

تُرى ماذا كان في فكره في تلك الليلة العجيبة؟

لربما نَجِدُ في النص الكتابي التالي، تصويراً عمقياً جداً لواقع ما كان يعتمل في داخله في تلك الليلة:

لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ †  بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا † فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا † الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ † لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ † لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ † آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ † صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ † وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ † وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ † حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ † لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا † وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ † لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ † كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ † وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ † وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ † أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ † هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.

ما أعجبَ هذه الكلمات، وما أعمقها وأكثر غرابتها! هل حقاً كان بولس يَعِي ويَفهم معنى ومضمون هذه الكلمات العسيرة جدا، الكبيرة جدا والعميقة جدا جدا؟!

بحسب هذا النص، كان ابن الله يَعْبُرُ مَراحل مختلفة مِن التخلّي والتنازل، مراحل تتسابق الواحدة منها ضد الأخرى في عُمقها وصعوبتها واستحالتها!

أولى تلك المراحل أو المستويات تمثلت في أنه تخلى في ذهنه عن المكانة "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ".

ولربما سنَكْتَشفُ بعد قليل أنّه كان أسهل مستويات التخلّي والتنازل. فأنْ تُفكِّر بِفِكرة ما، أنْ تُحاول في داخلِكَ أنْ تَتمثّل فكرة معينة، ربما يكون صعبا نوعا ما، لكن الأمر لن يُكلّفَكَ شيئاً حقيقياً! أنْ تُحاول التفكير أنْ تُحبني أو تَكرهني، أنّك مُتواضع، أنّك بَطل سوبرمان... ذلك كلُّه أمرا يسيرا، وغالبا في متناول اليد. وأنا هنا لا أقصد أنَّ ابن الله كان لا يقول الحقيقة عندما أَخْبَرَ عنه الوحي "لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله"! حاشا له! لكنّي أقول أنّه عندما فَكَّرَ في هذا وهو في عَليائِه، في عرشه في كلّ جَبَروته وقدرته، لم يكن في الواقع أمراً مُكلِفا مُقارنة مع مستويات أخرى سنأتي إليها تَوالِيا.

فعندما تتنازل "في فكرك" أنت تَعلَم أنّ لا أحد سيَعْلَم أو سيُلاحظ التغيرات التي طرأتْ عليك! بامكانك التفاعل "فكرياً" يومياً مع أية أزمةٍ لِفَرد أو لِشَعب أو لمجموعة مِن الناس، ولن يُلاحظ أحد، ولن يَتَّهِمكَ أحد أنّك تتعاطف مجموعة مرفوضة مِن قِبَلهم! لأنّ المشكلة تبدأ عندما تحاول تطبيق بعض ما هو في فكرك، وهنا أرى أن الأزمة الحقيقية قد بدأتْ!

لأنّه في المستوى الثاني مِن التخلّي، تخلى في شكله عن شكله "لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ".

ماذا يمنع أن أكونَ مِثلَ واحدٍ مِن مَخلُوقاتي؟ مثلاً ماذا يَمنع أنْ أُجَسِّدَ حالةَ كُرسي، يجلسُ عليّ أحدُهم؟ وربما فَعَلنا هذا عندما لعّبنا أولادَنا أو أحباءنا، لكنك كُنتَ مُتيقّن أنّ الذين هم مِن حولِكَ يعرفون ويُسلِّمُون أنّكَ لستَ كُرسيًا، وأنّك لن تَستمر كُرسيا! والأكثر مِن هذا، لم يَخطر ببالِكَ أبداً أنّه ربما فكّرتْ الكراسي في بيتِكَ أنّك صِرتَ واحداً منها! بشكلٍ أو بآخر هذا يُشبه ما فعله ابن الله بـ "فكرة" التخلّي التي بدأنا بها. لا نعرف كم من الزمن استمرت الفكرة في ذهن الاقنوم الثاني في اللاهوت، أنه "لم يحسب خلسة المعادلة"، فنحن لا نفهم الزمن عند الله. لكن في لحظة زمنية سماوية، وَقفَ الابن وقال: سأتَشَبَّهُ بالبَشَرِ!

مُعظمنا قرأ قِصصاً عن "الأمير الفقير"، "الأمير والفقير"، "الغني الفقير"... وسواها مِن القصص التي تَحكي عن غنيّ أو أميرٍ أو مَلِك تَنَكَّر بِزيّ الفُقراء ليرى حال الناس والرعية. ومِن وَقتٍ لآخر نُطالعُ خَبَراً عن مَلِك ظَهَرَ فجأة ليساعد عائلة فقيرة، أو ليشربَ الشاي مع بعض المارة في قهوة على ناصية الطريق... وسواها من التهيوءات في عالم بعض الحكومات السلطوية، وكيف تُهلّل الناس وتَبتهج بالخبر والفيلم الذي أخرجه واحد مِن أجهزة مخابرات تلك الحكومات.

الآن، المشكلة مع ابن الله، أنّ الخالقَ تَشبَّه بواحدةٍ مِن مصنوعاتِهِ، والواقع بواحدة مِن مصنوعاتِهِ المُتمرّدة العاصية! لِيَصير كأنّه مُتمرّد عاصٍ! كيف سيَنْظَفُ مِن وَصمَةِ العار هذه؟ وإذا استطعتُ أنْ أَجْنَحَ بتخيّلاتي قليلاً، لقُلتُ: لو أنّه تَجَسّدَ شجرة، ربما كان الوقع على سكان السماء أسهل!

في هذا المستوى مِن التخلي، تظهرُ لدينا مشكلة أخرى هي: كم مِن الزمن يجب أنْ يَبقى مُتلَبِّسًا صُورة المخلوق؟ ليس لدينا جواب. طبعا لا تُفكّر بالـ 30 سنة البشرية وما تشكّل مِن تاريخ البشرية! بل فكر بتوقيت السماء، وما تشكل هذه الفترة من تاريخ السماء!

لكنّ القصة لم تنتَهِ هنا، بل تصاعدتْ فيها القضية إلى مستوى آخر أكثرَ صعوبةً وتعقيداً، فالوحي بحسب النص أعلاه، يُخبرنا عن مرحلة أخرى أو مستوى آخر من التخلّي وهي أنّه

تخلى في فعله عن أفعاله منحدرا في الطاعة: "وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ"

هل كان مِن المتوقع أنْ يَستغرق الأمر لحظةً؟ لحظة سماوية أو لحظة أرضية؟! على كلّ حال، أية لحظة، مهما كانت قصيرة، كانت ستكون كارثيّة في ما فعل ابن الله في حالة التخلي هذه.

لربما خطر ببالك، خطر ببال الحاشية في السماء سيناريو مثل هذا: حسنا، حسنا، جرَّبتَ حالة هذا المخلوق الفظ، والآن لِنَعُدْ إلى حالتنا، وللعظمة والأبهة والجلال... لكن النص العجيب، الصعب والمخيف يُخبرنا، أنّه تَجَسّد، تَمَثَّل في حالة البشر. ثم ! ثم استمر "وإذ وجد في الهيئة البشرية، وضع نفسه وأطاع"!

وكأنّي بحاشية السماء تصرخُ: ماذا؟ يعني لَبِسْتَ بشراً، وأيضا تريد أنْ تَقْطَع حطبا، وتُسافر مشياً، وتَشوي لحمًا، وتَتَجَادلُ مُجادلات البشر السخيفة؟ الآن تُريد أنْ تَجُوعَ، وتَنْتَظِرَ أحدهم يُحضِرَ لك خُبزاً أو ماء! لقد تَمادَيْتَ جداً يا مولاي! لا نحن ولا كلّ الخلائق تستحق هذا!

لكنّ النص يقول أنّه "لما صار بشرا، استكمل تفاصيل حياة البشر كلّها"، وعندما أقول كلّها، يَجبُ ألاّ يَذهبَ ذِهْنُكَ نحو الأكل والجوع والبرد واللباس فقط، بل ليذهب نحو "الخطية" و"الدنس" و"الرفض" الإلهي! فالقضية هنا ليست في أنّه سيُوصم بالكذب مثلا - ككل البشر، أو بخطايا أخرى - ككل البشر، أو في أنه سينطبق عليه القول الإلهي "كُلُّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا مَعًا، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (مز53/3). بلْ إنّ القضية مُتعلقة بالقانون الإلهي الثابت "أجرة الخطية موت"! والحقيقية الثابتة والمُعلَّقة على جُدران السماء، أنّ القصاص يَنْتَظِر بني البشر بسبب أنهم جميعاً أخطأوا وأعوزهم مجد الله.

فالمشكلة الآن في السماء يُمْكنُ وَصْفها بهذا السيناريو: لحظة... يجب أنْ نُعَدِّلَ القانون الإلهي، يَعني "يَعْمَلوا استِثْنَاء"! لأنّ ابن الله الآنْ مُتمثّلاً بشراً! يَعْنِي مِنْ كلِّ عقلكم "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله"؟! يَجب أنْ يَتَغيّرَ هذا حتمًا.

لكنَّ مُفاجأة السماء، بل مُفاجأة كلّ الدهور، أنّ ابن الله المُتجسد، يَذهب إلى ما هو أبعد مِن هذا في التخلّي!

إذاً، تَخلّى عن نفسه حتى مات: "وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ، حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ"

أعتقد أنّك الآن تستطيع أنْ تُقدّر ولو قليلا لماذا يَرفض الفكر البشري "موت الصليب"! تَخيّل معي، ذلك الأمير أو الملك الذي مَثّل دور المتواضع، ونزل بين الناس كما يُؤلفون القصص في بعض البلاد، لِنَتخيّل أنّ القصة حقيقية، ثم لِنَتخيّل أنّ ذلك الملك قَرّرَ أنْ يبقى واحداً مِن الرعيّة، ويعمل سائق تكسي، ليموت بعد سنوات بحادث سيارة!

الآن لدينا إنسان يُعادل بالقيمة كلّ البشرية،                            نعم وهذا ما تحتاجُه البشرية

الآن لدينا إنسان لم يَفعل خطية ولم يُوجد في فَمِه غِش،              وهذا ما يحتاجُه البشر الخطاة

الآن لدينا إنسان هو في الوقت عَينِه ابن الله الأزلي،                  مُستعد أنْ يَتَحوّل إلى ذبيحة مِن أجل

الخطية، لكنّ المشكلة أنّه ليس خاطي!

الآن لدينا يسوع المسيح، ابن الله المتجسد،                             يموتُ نِيابة عن مَنْ؟

الناس بالكاد تموت من أجل أحبائها وأصدقائها وأقربائها "فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضًا أَنْ يَمُوتَ" (رو5/7). لكن، هنا ابن الله المُتجسد يموتُ مِن أجل البعيدين "وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رو5/8). تخيّل معي هذه المعادلة المستحيلة:

صاحبُ الكلّ، يَتخلّى عن الكلّ .. مِن أجل المُزدرى وغير الموجود!

الآن دعني أسألك: في أي مستوى مِن هذه المستويات التي مرّتْ معنا تَجِدُ نفسَك؟ لو أنّ هذه الكلمات قِيلتْ عنك: أنا الذي كُنتُ في مَقام ... لم أحسب ولو للحظة أنْ أكونَ كأنّي مالكاً لـ ... لكنّني تَخلّيتُ عن ... مِن أجل. مِن أجل مَن؟ مِن أجل ماذا؟

 

أنا أرجو مِن كلّ قلبي أنْ تكون في مستوى مُعين، مستوى ما مِن مستويات التخلي، لكنّ رجائي أيضاً أنْ لا تَكتفي به، بل أنْ تكون في مرحلة تحضير لِمستوى آخر، لِمستوى أعلى مِن التخلّي، لحالة أكثر عُمقاً أكثر تَشبّهاً بِسَيّدك الذي تخلّى عن كلّ شيء، بل تخلّى عن ذاتِهِ مِنْ أجلك!

 

الجمعة العظيمة، نيسان 2018