الحارة الفاضلة من بابها

كتبتُ هذه المقالة في نهاية رمضان الماضي، مع انتهاء ضغط البرامج التلفزيونية المخيفة، التي كانت تحمِلُنا بأمواجٍ هوجاء إلى حيث لا أحد يدري. ولكنْ لأسباب أجهلُها لم أنشرْها وبقيت بين دهاليز كمبيوتري. أما وقد أتى رمضان هذه السنة، ومعه ملاحق لعدد من مسلسات السنة الماضية، فلم تعد هذه المقالة قديمة، ولا تنتمي لمخزن المقالات في الكمبيوتر.

*       *       *

تُتابع الدراما السورية تألقاتها من حين لآخر بأعمال فيها تميّز ملموس على غير صعيد، لكن يجب ألاّ يُبعد هذا البريق عيوننا عن بعض الثغرات التي يمكن أنْ يكون بعضها ذا أهمية لا يمكن إهمالها.

هكذا الحال مع المسلسل الرمضاني "باب الحارة". فهو لأكثر مِنْ سبب بحاجة إلى النظر بإمعان بهذه الثغرات، والتي ربما يكون بعضها كبيراً، يتعدى حجم "الثغرة"!

مِن هذه الأسباب:

  • ·       أنَّه شعبي وناجح، على غير صعيد، خاصة الممثلون الذين بَرَعَ معظمهم في تجسيد الشخصية المرسومة له، والديكور والموسيقى وتقنيات أخرى.
  • ·       ثم أنَّه يتحدث عن نضال شعبنا ضد الاستعمار، مما يعني أنه يعالج قضية هي قضية الجميع.
  • ·       كما أنَّه حَمَلَ رايةَ فلسفةٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ ودينية.

لهذا كنَّا نتمنى على أصحاب المشروع، أنْ يلحظوا بعض القضايا الهامة والتي يتعدى تأثيرُها السلبي أهمية النجاج الكبير الذي يبحثون عنه، مِن هذه القضايا:

ü   لقد صوَّر لنا المؤلف "الحارة" حالة مثالية تفوق في بعض جوانبها مدينة أفلاطون. وهنا نسأل: لماذا كل هذه النموذجية والمثالية في الأخلاق، التصرف، العلاقات والحوارات وغيرها؟ لقد ضَغَطَ علينا هذا بشدة، لنرى أنفسنا "سيئون" إنْ جاز التعبير، فلقد فاق علينا كل أفراد "الحارة" بمثاليتهم. ليس لأن – مسلّة – تحت إبطنا تنخزنا، بل لأن النموذج "نموذجي" بشكل يفوق الواقع بكثير.

ü   كرَّسَ العمل سيادة "الذكورية" بإسرافٍ شديد، نحن بغنى عنه. ففي كل الأحداث، كان الذكور فاعلين نشيطين، فطنين، يحملون كل الأعباء الصغيرة منها والكبيرة، منشغلين بكل ما هو هام ومصيري وأساسي. في حين كانت النساء منشغلات بكل ما هو تافه وفارغ مقارنة مع كل ما شغل الذكور، من مؤامرات نسائية، كيد، طعام، زغاريد، انتظار العريس وهموم ضراير!

لماذا؟ كل هذه الصورة السلبية للإناث وكل هذه الإيجابية للذكور؟

صحيح أن مجتمعنا صورة لمجتمع محافظ، وكذلك "الحارة" التي تخصص بها، لكن المسؤولية الاجتماعية والثقافية التي أخذها العمل على عاتقه، تحتم عليه صورة أكثر اتزانا مما عرض.

ü   حرص المؤلف على حضور "الشيخ" في كل موقف وحالة، ومع هذا فإننا نعتقد أن هذا الحضور المكثف لهذا الشيخ، كان سلبيا من نحو الرسالة التي يحملها كرجل دين، يمثل ضمير الناس. لقد انحصرت معظم همومه واستشارات الناس له بما يتعلق بالزواج والطلاق والعودة عنه، لماذا؟ لماذا هذه المحدودية في عمل ورسالة "الشيخ"؟ وإن كانت في الواقع هذه مهمته ورسالته – وأنا لا أعتقد ذلك – فلماذا كان موجودا في كل مشهد تقريبا؟ ثم على هامش هذا الحديث، أين المسيحيون في هذا السياق كله؟ أين هم في معركة الاستقلال، والتي يصورها العمل معركة "الشوام" كلهم؟ أين هم؟ ألم يكن في دمشق آنذاك مسيحيين؟ ألم ينخرطوا في عملية تحرير البلاد؟!

ü   لماذا قتل الرجال رئيس المخفر؟ ليس فقط قتلوه، بل وببرودة أعصاب وتشفٍ، لماذا؟ لقد كان ذلك الشرطي مواطنا سوريا، صحيح أنه يتعامل مع الفرنسيين، ولم يكن الوحيد، وصحيح أنه كان سيئ الأخلاق، لكن هذا ليس مبررا ليُقتل بهذه الطريقة الثورية البدائية. لماذا لم يقترح علينا المؤلف طريقة أكثر رُقيًّا ومنطقية كما فعل بكل النموذجية المتألقة في شباب "الحارة"؟ ألم يكن من المعقول أن يحاكم؟ أو يعتقل أو يؤدب بطريقة ما كما أرانا في حالات مشابهة؟ وبالتالي تنحصر فكرة القتل أو الطرد للمستعمر، وليس لأولاد البلد، وأنا هنا لست أساوي بين العميل والوطني، بل أنطق بلسان المسلسل وأخلاقه.

ü   إن انتشار بيع "الباكوره" وحملها بين الناس، وانتشار تمثل أولاد المدارس بأبطال المسلسل بوضع مساطرهم على خصرهم على أنها "شبرية"، وبعضهم وضع بالفعل "شبرية"، وغيرها من عادات بدائية ومتخلفة مجدتها منعطفات العمل، كان لابد أن يعطي أصحاب المسلسل الذي يبدو أنه سيواصل حياته معنا السنين العشر القادمة، كان لابد أن يعطيهم فكرة عن المميز الذي بقي من مسلسلهم في عقول الناس والشباب منهم خاصة!

لقد شكلت التغطية الإعلامية الهائلة التي تحدثت عن نجاحات المسلسل خطاً دفاعياً مخيفاً لكل من يريد أن ينتقده، ولعل أحدهم سيقول إن نجاح العمل يعتمد على الاقبال الجماهيري، وهذا صحيح، لكن دور النقاد والمفكرين والعاملين بهذه المجالات يكمن في تصويب رأي الجماهير حتى وإن كانت تشكل اجماعا، وإلا ستقع الثقافة والأعمال الأدبية والفنية في منزلق لا صعود منه.

 

أول رمضان 2008 و2009