الأنساب والمسيحيون

يتساءل البعض: أين الأنساب عند المسيحيين؟ ولماذا نكاد لا نرى نسباً لا بعيدا ولا قريبا لمعظم الرجال والنساء الذين يُورِد أسماءَهم وقصصهم الإنجيلُ المقدس؟

السؤال كبير وذو أهمية لدى العرب بالتحديد، نظراً لإهتمامهم الشديد بالإنتماء والقبيلة، ونظرا لارتباط أمور كثيرة في الدين بالقبيلة ، تماما كما هو الحال لدى اليهود. فلماذا يختفي هذا لدى المسيحيين؟

ظنَّ بعض العرب أنّ السبب كامنٌ في ضَعف أو انعدام الانتماء العائلي والقبلي لدى المسيحيين، لهذا تختفي هذه الميزة لديهم، ولأنّ خطأً ما وَقَع في الإنجيل المقدس أُغْفِل بسببه نَسب الناس وأصحاب القصص، وبالأخص كُتّاب الأناجيل الشرفاء. لكنّ الأمر ليس كذلك أبداً، ولا هو مُشابه لأي مبدإٍ يَنطلق منه العرب أو سواهم مِن أتباع ديانات مرتبطة بالقبيلة ومُبجّلة لها.

يَبدأ الموضوع في أنّ المسيحية لم تبدأ مِن عائلة أو قبيلة، ولا هي تَعتمد على هذه الركائز، فالكِتاب يقول "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ الله" (يوحنا 1/12). وأيضا الله "يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" (1تيموثاوس 2/4). فالمُنطلقات الأولى حتما ليست مرتبطة بعائلتِك ولا بقبيلتك، وهذا كان حال المسيحيون منذ أيامهم الأولى، فبعضهم كان يهوديا، وبعضهم الآخر يونانيا وآخرون روميين، وحبشيين وقيروانيين...

ثم إنّ الانتماء هنا هو لله، ليس فقط كإلهٍ مُستحق العبادة والتبجيل، بل كأب للمؤمنين. نعم، هناك أبوك الذي وَلَدَك، وحقّق لك انتماءك العائلي. ولكن هناك إنتماء روحي أو سماوي، يُحقّقه الله – كأنّه آبٌ سماوي! الذي كأنّه يَتَبنّاك، ويَضمّك لعائلةٍ خاصة به، تتألف مِن أولئك الذين يؤمنون به. إنّ والديك، وإنْ كان لهما فَضل في تعليمك كيف تكون على علاقة بالله الخالق، وتعريفِك بطريق الخلاص الذي أعدّه للبشر. إلاّ أنّ انتماءك إليه تعالى، لا يتعلق بهما، ولا يقوم بسببهما، بل بانتمائك الشخصي إليه، على أساس قبوله الأولي لك. مِن هنا نفهم كلام السيد المسيح: "أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا" (لوقا 8/21).

والأنساب والانتماءات القبلية والعائلية، تؤدي للتعصب والانقطاع عن الآخر. هي مدعاة للتفاخر والتناحر، لهذا نجد الكتاب المقدس يُحذّر منها بَدَل أنْ يُشجّعنا عليها! لاحظ قوله "أَمَّا الْمُبَاحَثَاتُ الْغَبِيَّةُ، وَالأَنْسَابُ، وَالْخُصُومَاتُ، وَالْمُنَازَعَاتُ النَّامُوسِيةُ فَاجْتَنِبْهَا، لأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَبَاطِلَةٌ" (تيطس 3/9)، وأيضاً "وَلاَ يُصْغُوا إِلَى خُرَافَاتٍ وَأَنْسَابٍ لاَ حَدَّ لَهَا، تُسَبِّبُ مُبَاحَثَاتٍ دُونَ بُنْيَانِ اللهِ الَّذِي فِي الإِيمَانِ" (1تيموثاوس 1/4). بل حتى الانتماء الجسدي والعائلي للسيد المسيح لا يُمثّل أهمية تُذكر، طبعاً مقارنة بعلاقتنا الروحية به وبالله الآب "إِذًا نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ" (2كورنثوس 5/16)! تتناحر العائلات وتتقاتل، ومِن هذا المستوى ننتقل إلى القبائل التي لا تتوقف عن تناحرها. وعندما كَبُرت القبائل وتقاربت بشكل أو بآخر، وظهرت النظريات القومية، لم يؤدِ كل هذا إلاّ إلى مَزيد مِن الكراهية والتباعد والتناحر والقتل. واليوم، إذا أردنا أنْ نبني المسيحية على جدران العائلة والقبيلة، فإنّنا نُهدّدها بالنتائج عينها، وستكون سبباً للكراهة والتنافر، بدل أن تكون مدعاة للمحبة والتقارب والألفة.

ثم ماذا سنفعل بالأفراد والأفخاذ أو البطون التي شذت عن الإيمان، وابتعدت عما نتمسك به؟ فمتى كان الدين دِيناً للقبيلة ومُعتقداً للشعب - كأمّة، فالشذوذ سيكون مزدوجا، وسيفتح المجال بسهولة لقصاص اجتماعي أسبابه دينية، أو العكس، قصاص ديني أسبابه اجتماعية. فإلى أين سيوصلنا هذا؟ لعلّ الجواب حاضر عندك!

لربما مِن مُنطلق ما تعلّمنا وتربّينا عليه، كُنّا نتمنّى أنْ نعرف نَسَب وعشيرة بطرس أو بولس أو يوحنا الحبيب، أو على الأقل كما يقول البعض: أولئك الأشخاص المهمّين الذين كَتَبوا الأناجيل! أمّا هنا فسأقول: أشكر الله أنّ الوحي لم يُسجل أنسابّهم ولا انتماءاتهم، وإلاّ كُنّا وَقَعْنا في عَطَب الانتماء لهذا أو لذاك مِن الأنبياء أو الأولياء، وَلَتَفَاخر واحدُنا على الآخر، كأنّ الإيمان بالله مُتعلّق بِجَدّك، أو يَعْتَمِد على سُلالَتِك!

 

20 حزيران 2016