عقدة الهمزة

 

لا أعتقد أنّ ناطقًا بالعربية واظبَ على المدرسة لسنوات قليلة أو كثيرة، إلا وَعَانى مِن كِتَابة الهمزة، والأسوأ أنّه ما يَزال يُعاني هذا الداء الـمُسمى "قاعدة كتابة الهمزة"! تَـخيَّل معي أنّنا جميعا نُعاني مِن حَرفٍ لا نَلْفِظُه عندما نَنْطِق باسمه! فـ "الهمزة" في الواقع ليس فيها ( ء ) همزة، أليس هذا عجيبا!

وقاعدة كِتَابة الهمزة، حالة مِنَ العُقَدِ الـمُتصِلَة الـمُتشابكة، كُلَّما حاوَلْنا خَوْضَها، وَجَدْنا أَنْفسنا وَسط مَتَاهةٍ، جُدرانها هَمزات، حَارَتِ الدُّنيا في أَماكن وَضْعِها وطَرِيقَة رَسْمِها!

والواقع ما أَزالُ حتى اليوم أُسائِلُ نَفسي: لماذا كُلّ هذا التّعقيد؟ ولماذا لم يَستطعْ فُقَهاءُ اللّغة تَبْسِيط الأمر وجَعْلِهِ في مُتَنَاول الكتابة التِلْقَائية؟ والقَضِيّة لا تَتَعلّق باللّغة العربية وعَلاقَتها بذلك الكِتَابِ الذي يَـخافُ عليه أصحابُه مِنْ نَسْمَةِ هواءٍ تُصِيبُه بالعَطَبِ! فَيُومَ كُتِبَ أو إنْكَتَبَ أو كُتِّبَ أو ما تَشَاء مِن الطُرق، لم تَكُنِ الهمزة قَدْ وُلِدَت، وبالتالي لم يَصْنَع نَـجَّارو اللّغة العربية الكراسي السَّخِيفَة لِـجُلُوس الهمزة المزعجة.

لكنْ، وَبَيْنما أنا في وَسط بَـحثٍ لُغَوي عَمِيق وكَبِير وَعَسِير ومُعَقّد، جَالسٌ في بِرْكَةِ حَمّام السِّبَاحَة، أُداعِبُ هَمزةً مُعَلَّقة فوقي، سَقَطَتْ في الماء ثم صَعِدَت – نعم تمامًا كَما حَدَثَ مع أرخميدس. ولاحظتُ على أَثَرِ ذلك الحادث أنّنا بِكُلِّ بَسَاطة يُمكِنُ أنْ نُجلِسَ الحرفَ الـمُعاقَ المدعُو "همزة" على نَبِرةٍ بِشَكلٍ دائم ومُسْتَمر - وبِغَضّ النَّظَرِ عن أيّةِ قاعدةٍ هَمْزيَّة عَقَّدَنا بِـها اللّغَويُون العرب. ممّا سَيَجْعَلُنا نَـحْصل على عِدةِ فَوائِد بِضَربةٍ واحدة:

-        سَنَتَخلّص عندئذ مِن كلِّ الكراسي التي يـَحارُ فيها 98% مِـمّن يَكتُبُونَ العربية، (الواو، الياء، على السطر، تحت الألف، فوق الألف...): ئَنْتَ – أَنْتَ، تَئَنَّى – تَأَنَّى، قِرائَة – قِراءَة، يَتَئَوّه - يَتَأَوّه، يُئَثِّر – يُؤثِّر،

-        لن يَتَحكَّم بِـحَركةِ الهمزة كَحرفٍ سِوى الحركة الخاصة به، بِغَضّ النَّظَرِ عَن الحرفِ السابقِ وحركَتِهِ أو الحرفِ اللّاحِقِ وحَرَكتِهِ:

o     ئِسَائَات - إِسَاءَات، مُلَئِم - مُلائِمْ، ئِنْسان - إِنْسَان، مَئُنَة - مَؤُنَة...

o     وعندما سَتَصِلُ إلى عقدة مِن مثل: مَلْجَأ، مَلاجِئ، شَيء، جِزء، يَبْتَدِئ، بَطِيء وَسِواها مِن أزَمَات الهمزة الـمُتطرفة، سَيَكُون الحلّ يَسِيرا وسَهْلا حتى لأوْلادِ الابتدائية: مَلْجَئـ، مَلاجِئـ، شَيْئـ، جِزْئـ، يَبْتَدِئـ، بَطِيْئـ!

-         ستُسْهُل كتابةُ كَثِير مِن الكلمات والأحرف التي رُسِمَتْ لِتَعْقِيد الطُلاب وتَصْعِيبِ الكتابة، لاحظ مثلا:

o     ئِنّ – إِنّ، فَبَدل مَتَاهَةِ كَسْر همزة إنَّ وفَتْحِها، وهي حَالات عَدِيدة، وبَعْضُها لا ضَابِطَ لها سِوى اسْتِحْسِان الكَاتِب!

o     كَلِمَات – دائما - تَصْرِف لحْظَة أو لَـحَظَات قَبْل أنْ تُقرّر إِنْهاء كِتَابَتِها: مُقْرِئُون - مُقْرِؤُون، مُئَذِّن - مُؤَذِّن، هَئُلائـ - هَؤلاء، ئُوْلائِكَ - أُولاءِكَ، مُرُوئَة - مُرُوءَة، نُبُوئَة – نُبُوءَة.

-        أيضا سَتَسْهُل كِتابة كَثيرٍ مِنَ الكلمات، لأنّ الكلمة سَتُصْبِح مُتصِلَة بَدَل تَقْطِيعِها بلا سَبب، مثلا: ئَو – أَو، بُئْرَة – بُؤْرَة، بَرائَة – بَراءَة، شَاطِئـ - شَاطِئ، عِبْئـ - عِبْء، ئِمْرَئَه - إِمْرأَة!

تَخيّل نَفسَك عندما سَتَعْتَاد على كِتَابةِ هذا الحرف بشكلٍ واحدٍ ( ئـ ) كَمَا اعْتدتَ كِتابَة حَرف الألف مَثلاً بِطَريقة وَاحِدة وانْتَهى الأمر. سَتُصْبح الكِتَابة أَيْسَر وأَبْسَط وأَكْثَر وَاقِعِيّة بالعلاقة مع النُّطْق. وهكذا تُصْبِح الكلمات أكَثْر تَنَاسُقًا وإنْسِجامًا.

نَعم، هو أَشْبَه بالحلم! ولأنّ هذه اللّغة مَـحْكُوم عليها بِعَدَم التّغيّر والتَّوسّع والتّلّون، سَيَبْقى هذا حُلمًا، وسَيَبقى تَـمَكّن كُتَّاب العربية مِنَ التَحكُّم بالهمزة وسِواها مِن عُقَدِ اللّغة حلْمًا لا يُمكِنُ تَـحويله إلى واقِع!

 

كالغري 19 آذار 2019

 

#pastorajji