رَشُّ الألقاب الكنسيَّة

 

في غَير حقبة مِن حقبات الكنيسة تعرَّضت الألقاب والمهام الكنسية للإستغلال أو سوء الاستخدام عن طريق شرائها بالمال أو الحط من شأنها بطرق متنوعة، واليوم تتعرض بعض الألقاب والمهام الكنسية في بعض الداوئر الإنجيلية لموجة جديدة من الاستخدام الخاطئ حتى بات يَختلِطُ علينا في حالات كثيرة مَن صاحبُ المسؤولية ومَن لا، ومَن صاحب اللَّقب وأحيانا الألقاب.

لكلِّ مرحلة ولكلّ حقبة العوامل التي افرزت هذا الحال السلبي، وبعض تلك العوامل تراه حاضراً في أكثر من مرحلة، وبعضها في كل المراحل، لكنها في كل حال أدوات تخريب للكنيسة. وهنا لن نُحلِّل كل تلك العوامل ونُصنِّفها، بل سنشرح أبرز ما يُنتج هذا "الرش" اليوم.

 

فهم خاطئ للإدارة الكنسية:

لابُدَّ للكنيسة مِن إدارة بمعنى مجموعة مُتقدمين يقودونها، إنْ إداريا وتنظيميا أو تعليميا وروحيا. لكنَّ بعض "الروحانيين" لم يفهموا هذا، وظنُّوا أنه مهما كانت الأحوال سيَتَولَّى الروح القدس قيادة الكنيسة، لكن هل يفعل الروح القدس حقا؟ أقصد ماذا سيفعل الروح القدس معنا عندما نقود الكنيسة يسارا وهو يريدها أن تذهب يمينا؟ هل سيعمل الروح القدس كل العمل الكنسي؟ أقصد أننا نُنْجِز ما رتبّناه "يسارا"، وهو يُكمل ما أراده "يمينا"؟ وماذا يكون الناتج بعدئذ؟

ألم يضع في الكنيسة مدبرين ومعلمين ورعاة لينجزوا ما عليهم مِن واجب، وهو يتكفّل بالباقي؟ فكيف يكون معظم إنْ لم نَقُل جميع المؤمنين "قادة"، فأين المسؤولين؟ وكيف يكونون "خداما للإنجيل" فمن سيُخدَم عندئذ؟

إنَّ الترتيبَ الروحَ قُدسي ببساطة هو:

أنَّ "البعض" سيكونون رعاة، يرعون "البقية"

في حين أنَّ "البعض" سيكونون مبشِّرين مثلا ينشرون البشارة فيزيدون عدد المؤمنين.

لهذا فإنَّ اللَّقب مهما كان والمهمة الكنيسة مهما كانت، لا تكون نتاج مِزاج واحد، ولا هي ترتيب شخص من الكنيسة بمقدار ما هي نتاج عمل الجماعة "الكنيسة" وتفاعل أبنائها ودوائر الخدمة فيها.

 

فهم خاطئ للكنيسة:

بالرغم مِن تعريف الكنيسة الذي يَتَّفق عليه الجميع وبَقِي واحدا عبر كل العصور، أنها مجموعة المؤمنين، تستغرب كيف يُعبِّر عنها البعض أو يعيشها على أنها مجموعة أفراد منفردين متوحدين في حياتهم المسيحية، وفي إدعائهم الخدمة والثمر! لكن أين الثمر؟ وإلى أين ولمن ينتمي هذا الثمر؟ أين الجماعة؟ أين الجسد الذي يبغيه المسيح، ويناضل من أجله الروح القدس؟

نعم، كل هذا غير مهم، المهم أنَّ كلاً منهم قائد، خادم للإنجيل، واعظ، معلم ... إلى ما هنالك من ألقاب يطلقونها على أنفسهم، يختصرون بها وبأنفسهم "الكنيسة"، حتى أصبحت الكنيسة كائنا لا شكل له يمكن وصفه، ولا رائحة يمكن تمييزها، ولا صوت يمكن فهمه.

أذكرُ شابا كان يحضر اجتماعا من اجتماعات الكنيسة، بل كان من وقت لوقت يطلب لقائي الشخصي، ليشرح لي على مدار ساعة أو أكثر خدمات البشارة والشفاء التي كان يجريها في الفترة السابقة، وكانت تبلغ عشرات الحالات في كل مرة. وآخر مرة زارني قلت له: يا أخي يعني أين كل أولئك الذين يؤمنون ويُشفون لماذا لا تحضر بعض العينات إلى الكنيسة ليُخبروا عن عمل الرب فيهم، ويباركوننا بحضورهم؟ فهل كان سؤالي سبب عدم زيارتي فيما بعد؟ لست أدري!

ما أكثر الذين لا يحضرون كنيسة ما أو حتى اجتماع في بيت، ولكنهم يُسهبون في الحديث عن خدماتهم التي تأخذ حتى وقت عملهم! لكن أين وماذا يخدمون؟ ومن قال لهم أنهم بالأساس هم "خدام للإنجيل" أو "قادة"؟

 

رغبة المؤسسات المسيحية بتسويق برامجها:

وهنا طامةٌ كبرى، تُشبه كرة الثلج المنحدرة من علٍ. فما وُجِدَ بالأساس ليكون نعمة، بات يتحول يوما بعد يوم إلى نقمة في حياة الكنيسة وأولاد الله.

فلقد تحولت تلك المؤسسات المسيحية التي كان يجب أن تكون إلى جوار، داعمة، حاملة، مكملة لعمل الكنيسة، باتت كائنات مستقلة، لها برامجها ومخططاتها بغض النظر عن أي أمر آخر.

لديها برامج تدعو إليها من استطاعت استمالته، ليُصبح بعد بضعة أيام "قائدا كنسيا"! وبرامج أخرى تصنع بعد بضعة أيام "خادما للإنجيل"! وبرامج أخرى تصنع منه بعد بضعة أيام "واعظا قديرا" ...

أذكر أنني حضرت واحدا من هذه اللقاءات، وقضينا الأيام الخمسة ومصمم اللقاء يعيد علينا بلا ملل أو كلل أكثر من الماء الذي شربناه: "أنتم قادة الكنيسة في الشرق". وقبل نهاية اللقاء بيوم، أتاني إثنان ارتاحا لي كما قالا ليسألاني ما معنى هذه العبارة وما المتوقع منهم أن يفعلوا؟ وما عرفته في تلك المحادثة القصيرة، أن الشابين كما كل الذين أتوا معهم من بلادهم، لم يمضِ على التصاقهم بالكنيسة سوى بضعة شهور لا تتجاوز اليد الواحدة، أحدهم لم يكمل قراءة إنجيلين من الأناجيل الربعة!!

وفي كنيستي أتاني أحد الشبان "الطيبين" ليخبرني أن فلاناً طلب منه أن يخدم معه فيرسله إلى ...، فسألته وماذا فعلت؟ قال: طبعا رفضت، قلت له أنا عضو في الكنيسة الفلانية، وأضاف: فكرت في نفسي، كيف يدعوني لهكذا خدمة خطيرة وهو لا يعرف شيئا عن "البلاوي الزرقا" التي عندي؟ يبدو أن ما كنت أسميه تأخير في كنيستي من نحوي كان بناء سليما لشخصيتي الروحية.

أيها الأحباء المؤْتَمَنُون على امكانيات مميّزة لخدمة السيد، ليست العِبرة في عددهم، بل في نوعيتهم وفي ما سينتجونه ويثمرونه في الكنيسة ومن أجل الكنيسة فيتمجد السيد.

 

أنانية الناس:

نعم إنه داؤنا الدهري! أنْ تَكْبُر فينا أنانيتنا حتى يملك التكبر حياتنا، ويتحكم بقراراتنا، ويتولى تحركاتنا. لعل آدم ساءَل نفسه وحواء: لِمَ ليس أنا؟ لماذا يحمل هو لقب "عارف الخير والشر"، بينما أنا لا أحمله؟ ماذا ينقصني عن هذا اللقب؟ فأنا لو أنني أحمل هذا اللقب والسلطة الناتجة عنه، لكنت أجريت كثيرا من التغييرات والتعديلات التي أرى ضرورتها بشدة من حولنا!

إنه عدونا الأول، أنانيتنا وتكبرنا. لهذا فإن أول درس يتعلَّمه الإنسان في تقرُّبِه مِنَ العلي هو كسر شوكة هذا العدو: يجب أن تأتي أمام الرب بانكسار واعتراف، عندئذ يمد يده الرب ويرفع رأسك قائلا: أَقْبَلُكَ وأحبك.

والدرس الثاني الذي نتعلَّمه كأولاد الله هو في الواقع نفسه مكرر بصورة أخرى "تحب الرب من كل قلبك وكل ..."، بمعنى آخر، مِن الآن وصاعدا "أنا ما أنا بل المسيح الساكن فيَّ".

والدرس الثالث الذي نتعلمه كأولاد الله هو في الواقع نفسه مكرر بصورة أخرى، ولكنها صورة أصعب. أولئك الذين لا تعتبرهم ولا تكنُّ لهم احتراما، هم اخوتك وأخواتك، وعليك محبتهم "كما أحببت إلهك"!!

إنه في الواقع الدرس الأصعب والأطول بالتمارين التطبيقية المرافقة له، لهذا يفشل فيه كثيرون، بل: لهذا نفشل فيه مرارا، أليس كذلك؟

إن من بين الأسئلة الصعبة والخطيرة الموجودة هنا:

هل أُنجز عملي وخدمتي بحسب اللقب أو الموهبة المعطاة لي بحسب مرضاة الله، ومشيئته وترتيباته؟

هل أبارك وأُنمّي اخوتي في الكنيسة تماما كما هو مطلوب مني، بغض النظر عن التكلفة التي تصيبني من جراء هذه الخدمة أو تلك؟

مِن اليسير جدا أن يُطلق أيُّ إنسان على أيِّ إنسان آخر أيَّ لقب يُريد. في مصر أي شخص يمكن أن يقول لأي شخص "باشا" وهو يعرض عليه مطلبا أو حاجة ما، إنه سهل ويسير جدا لأنه مجرد كلام!

لكن ما أصعب وما أخطر أن يكون لقبك يتضمن ما يجب أن تقوم به وما عليك إنجازه!

في الكنيسة اللقب أو الموهبة أشبه بالأبوة أو الأمومة. فما أسهل أن يقول لك أي شخص أنت أبٌ أو أنت أمٌّ، ولكن ما أصعب وما أطول الزمن المطلوب وما أكثر التضحية المُنتظرة منك إذا كنت ستكون أبا أو أمّا بالفعل!

 

20 كانون2 2010