العروبة مشكلة العرب اليوم 2

العروبة والإسلام

منذ نصف سنة كتبت مقالتي "العروبة مشكلة العرب اليوم". عرضت فيها لأربعة محركات تعمل على تأزيم العروبة كمشكلة المشاكل العربية والتي تتفجر هذه الأيام في سوريا. لكنْ مِن مقلبٍ آخر فإنّ الأزمة السورية متعلقة بشكل مباشر وعضوي في عاملين متلازمين أو يظهر كأنهما متلازمان صميميا هما العروبة والإسلام.

واليوم بعد هذا الدهر من الدمار السوري - ثلاث سنوات، ما تزال العروبة والإسلام محركان لكمٍ كبير من الصراع والانقسام والرؤى المشوشة لدى الأطراف المتصارعة، إن بين فئات المعارضة الضائعة بمعظمها، أو بين المعارضة والنظام. فعقدة العروبة والإسلام مركبة تركيبا عسير الفك ومستحيل الربط

فبالنسبة للإسلام، برهنت الحرب السورية أن الوجه الشعوبي للإسلام أقوى بكثير من وجهه القومي العربي. وأنا أستخدم هنا "شعوبي" لأشير إلى حالة شعوبٍ إسلامية بلا انتماء قومي. فالحرب السورية أظهرت هذا الوجه أكثر مما حدث في أفغانستان وباكستان، وأكثر مما ظهر في العراق وأماكن أخرى.

فما بدا كأنه معارضة للنظام السوري، تكشف سريعا أنه حركة إسلامية بامتياز، تدعمها حكومات اسلامية غبية، وتغذيها حكومات غربية تعرف ما تريد. فعشرات آلاف المقاتلين انخرطوا بالحرب في قتل العسكريين والمدنيين السوريين على مبدأ الأسلمة أو الموت. وبغض النظر عن كون هذا الإسلام وَهّابي أو سَلَفي أو سنّي على طريقة بلاد الشام أو الأزهر. فالمشكلة التي أحضرها أولئك المقاتلون من السوريين والعرب والأفغان والشيشان والهنود والألمان والبريطانيين وسواهم، أنها تروج لإسلام شعوبي مستعد أن يسحق حتى العروبة التي عادة ما لعب العروبيون بعقول بسطاء المنطقة المسلمين لاقناعهم أن العروبة ما هي إلا الإسلام عينه.

في الواقع ليس الإسلام الشعوبي الذي تضخم في الحرب السورية جديدا أو حديثا، بل هكذا عاش الإسلام طوال نصف مدة العباسيين والزنكيين والأيوبيين والسلجوقيين والمماليك والعثمانيين! إذ لم يكن المكوّن العربي يتعدى الفقه والمواد الفكرية الإسلامية. فلماذا الاستغراب من انخراط شيشاني في الحرب على الأرض السورية لصالح نصرة الإسلام؟ أَلمَ يفعل هذا صلاح الدين الأيوبي وهو غير عربي؟ ألم يفعل هذا عماد الدين الزنكي وهو غير عربي؟ أكراد وأتراك وفرس وسواهم من شعوب رمت من حياتها قومياتها، وما أعطت العربية أهمية تُذكر، وحاربت وقَتَلَت وقُتِلَت لصالح الإسلام فقط. تماما كما يحدث في سوريا اليوم.

أما من ناحية المحرك الثاني في الحرب السورية، وفي وجدان ما يجب أن يكون شعبا عربيا، وفي مبادئ قيام بعض الأنظمة فيما يُسمى البلاد العربية، هو الإصرار على القومية العربية، بدون حدود مفهومة للعلاقة بين هذه القومية والإسلام! فكثير من العروبيين خاصة في شرق المتوسط، هم مُدّعو عروبة منفصلة عن الدين أيْ علمانية، لكنها علمانية وهمية، لسبب بسيط جدا هو التمسك الشخصي لدى منظريها بالإسلام، بما فيه من شعوبية ومن عروبة! وهنا الأحجية التي لا حل لها. وهنا العصا التي عرقبت دواليب العروبة فسقط الخيل وكادت العربة أن تتحطم على منحدرات تحولات الشعوب والأزمان.

من هنا مثلا كانت أزمة العروبيين المسيحيين، فشركاؤهم المسلمون مصرون على الجذور الإسلامية للعروبة لكسب ودّ وتأييد الجماهير "المسلمة" من ناحية، ومن ناحية أخرى لجعل العروبة ذات جذور قديمة وذات أهمية، حيث أنها ترتبط صميميا بما يُسمى الحضارة الإسلامية. ولكن هذا يعيد العروبة في الوقت عينه إلى الإسلام بعيدا عن العلمانية، وبالتالي يورط العروبة بالشعوبية وهو مخالف للقومية!

ومن هنا كانت أزمة دخول الخليجيين على خط العروبة وهم لا يَفقَهون مِن العروبة إلا أنها جزءا من الإسلام الشعوبي، فحكومات تلك الكيانات المصطنعة لم تعرف ولم تعترف سوى بالإسلام الشعوبي من ناحية، ولم تتعامل مع قضايا العرب إلا من منظور علاقاتها مع الغرب الذي بمجمله يقف ضد القومية العربية، هذا ما عدا علاقاتها المخزية مع إسرائيل.

لهذا ترى العروبيين وعلى مدار الخمسين عاما على أقل تقدير، متخبطين في كل القرارات المتعلقة بمواقف إسلامية، فتارة يصادقون الحكومات الدينية في الخليج وإيران، وتارة يهاجمونها، وتارة يؤيدون حركات إسلامية متشددة كحماس وحزب الله والاخوان المسلمين وتارة يعارضونها ويحاربونها. والسبب برأيي بسيط يكمن في عدم مقدرة العروبيين على فصل مفهوم القومية العربية عن الإسلام، إسلامهم الشخصي كمسلمين والإسلام بمفهومه الشعوبي الذي يعتبر شوكة في مجرى تنفس القومية العربية.

فأين الحل؟ وكيف الخروج من هذا المأزق؟

أنا أعتقد أن الحل يكمن في مقاربة حال الشعوب العربية أو القومية العربية مع الدول القومية المسلمة مثل تركيا، اندونيسيا، باكستان وسواها من الدول التي قامت على أساس قومي، وفي الوقت عينه تتبنى الإسلام دينا لها.

فتلك الشعوب نَـما إسلامُها بلا عروبة، لا بل أهملت العروبة ورأت فيها مكون قومي لا تحتاجه وربما يناقض بعدها القومي الذاتي. لهاذا صار الإسلام فيها إسلاما يلبس طابعها القومي، واقتصر لديها الحضور "العربي"، بالقرآن باللغة العربية مع قرآن مترجم إلى لغاتهم القومية، وبعض الأدعية ذات العيار الثقيل! طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار بعض المحاولات الخليجية المخجلة لعربنة الناس في باكستان واندونيسيا.

إذا نظر العروبيون إلى هذه الحالات القومية نظرة الفاحص والمعتبر، أعتقد أنهم سيصلون إلى استنتاجات تدفعهم للوقوف أمام خيارين عسيرين جدا، فيهما خلاصهم، هما: التوقف عن عربنة اسلامهم، ليتركوه اسلاما مكتملا بنفسه بدون أن يلبس عباءة العروبة ليصير عربيا صرفا. أو التوقف عن أسملة عروبتهم، فالعروبة سبقت الإسلام، وتفوقه اتساعا، بل كانت وسيلة له، أكثر مما هو لها. فالإسلام يقبل أن يجمع تحت عباءته غير العرب، والإسلام لقرون عديدة ظلم العروبة، أقله أربعة قرون مع الاحتلال العثماني. وعليه سيرون أنه لا حاجة للجوء إلى الإسلام عند كل أزمة قومية، ولا حاجة لامتطاء حصان الإسلام كلما رغبوا القفز إلى مستوى جديد في طموحاتهم ورغباتهم القومية أو الشخصية. وهذا يعني أنهم سيقلعون شوك صعوبات حركتهم القومية بأيديهم وبوسائلهم وامكانياتهم الخاصة. فهل يا ترى يستطيعون؟ أو يرغبون؟

وأنا أعتقد أنهم لا يستطيعون، ولذلك لا يرغبون، ولهذا ستبقى العروبة والإسلام العنصران المحركان الكبيران في الأزمة السورية الآن، وفي الأزمات التي ستعايش الحركة العروبية ما دامت في الحياة.

دمشق 17 كانون2 2014