لغة بلا شعب

لفت انتباهي خطاب وزيرة خارجية النمسا في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، الذي ألقته باللغة العربية. وقد دفعتني للسؤال:

واقعيا، مَن يستخدم اللغة العربية؟

بالطبع لم أبدا بالتفكير بإرتيريا والصومال ولا حتى بالسودان، على الأقل الجنوبي منه. بل بدأت أفكر بالناس من حولي، في بلادي وفي البلاد المدعوة "عربية" على الأقل تلك التي زرتها. مَن في تلك البلاد يستخدم اللغة العربية؟ والجواب ببساطة: لا أحد!

وأنا أقصد هنا لغة قريش التي حملها العرب المسلمون معهم وهم يدمرون البلاد التي يعبرونها، يمسحون تحت أقدامهم حضارة تلك البلاد ولغاتها. ثم أتانا في العصر الحديث القوميون العرب المتأسلمون ليجددوا الاحتلال اللغوي ويكملوا ما بدأه أجدادهم البدائيون، فما كانت النتيجة؟

يقرأ ويكتب لغة قريش معظم الـ 300 مليون من سكان البلاد العربية، لكنهم جميعا لا يستخدمونها مطلقا في حياتهم اليومية. ليس في السوق ولا في البيوت ولا الشارع ولا في أي مكان آخر سوى عند القراءة والكتابة الإلزامية في المدارس.

لا أحد في بلاد العرب يستخدم ما يُسمى اللغة العربية، هذا بالرغم من التطبيق القهري لتلك اللغة في كل مراحل الدارسة. فخارج جدران الكتاب تسود لغات أخرى. لغات لا يَدرُسُها أو يُدرِّسها أحد، لا تضبطها قواعد مكتوبة ومحفوظة في مجلدات، ومع هذا يُتقنها الجميع ويفضلها الجميع وحتما يستخدمها الجميع!

من الغريب حقا، ان كل الجهود التي تُبذل على مدار 12 سنة من حياة التلاميذ، لتحفيظهم وتدريبهم على صياغات الكلام وطرق استخدامه، حتى البسيطة منها، تذهب كلها سدى، إذ يستصعبها الجميع ولا يستثيغها وبالتالي لا يستخدمها احد. بما فيها الأرقام البسيطة والمركبة، وصِيَغ الأفعال! فمن يقول مثلا: ثلاثة عشر كرسيا؟ لا أحد، من غرب بلاد العرب إلى شرقها، لا أحد!

ومن يقول: يأكل الأرز؟ لا أحد.

ومن يطبق قاعدة "عدم إلتقاء ساكنين"؟ لا أحد، بل على العكس، فكل الكلام يعتمد توالي حرفين ساكنين وربما أكثر ايضا!

من الغريب حقا صمود اللغات الأخرى بالرغم من التهميش والمنع! أكثر من 1000 سنة من الاحتلال اللغوي، لكن لغات تلك البلاد ما تزال حية وقوية وحاضرة على كل لسان. عجبي مثلا من اللغة السورية التي ما تزال تقاوم لغة قريش وتقوى عليها، في الأغاني في التعاملات اليومية للناس على اختلاف مستوياتهم. بل حتى القوميون العرب المتأسلمون، لا يعرفون أن يُعبّروا عن أنفسهم بشكل جيد وصحيح سوى باللغة السورية، وعندما يريدون أن يتفلسفوا، يتحولون إلى لغة قريش، ليرطنوا ببعض العبارات الطنانة التي يضطرون في كثير من المرات لترجمتها إلى اللغة السورية لتصبح أكثر قربا من العوام الذين يُخَرِّبون عقولهم.

هنا تكمن معضلة "لغة بلا شعب". فمن ناحية، لا نستطيع أن نقول إن عدد الناطقين بالفصحى هم بضعة آلاف، ففي الواقع معظم ساكني البلاد العربية يعرفون تلك اللغة قراءة وكتابة. لكننا في الوقت عينه لا نستطيع أن نقول أنها لغة سكان بلاد العرب الـ300 مليون، لأنهم جميعا – وهذا مؤكد وحتمي - لا يستخدمونها ولا يستثيغونها لا من قريب ولا من بعيد. إنها ببساطة ليست لغتهم!

 

كالغري 2 تشرين1 2018