مقابر غير مفرزة

 

في إحدى سفراتي، تكفل السائق، على عادة كثير من السائقين، بعمل الدليل لأبرز ما نعبر به، أو يظهر من مشاهد قريبة أو بعيدة، والواقع كان المكان يحتمل دليلا، فلقد كنا نعبر طرطوس!

ومما أرشد عيوني إليه ذلك السائق، وأفاض في شرحه كان "مقبرة طرطوس"، نعم المقبرة! وهي تستحق لفت الانتباه لسبب غريب ربما لنا جميعا: "وهذه إلى يمينك مقبرة طرطوس، وهي مقبرة لجميع الناس من كل مذهب ودين ولون".

وهنا قفزت إلى ذهني بالحال صورة المقابر في حلب، والتي كانت يوم كنت صبيا صغيرا، بعيدة عن كل سكن وبيت، واليوم أعبر بجوارها في معظم المرات التي أخرج فيها من بيتي. وقفز معها السؤال الذي يكرر نفسه في كل مرة أعبر من هناك: هل من الضروري أن يكون هناك مقبرة لكل دين ولكل طائفة؟

ما أسخفنا نحن البشر، خاصة أولئك الذين يتبعون الديانات، أو على الأقل ما يُسميه البعض الديانات السماوية!

ولربما أبشع تجسم لسخفنا هذا يظهر في فرز القبور، حيث لكل دين مقبرة، ولكل طائفة مقبرة، وأحيانا لكل مذهب في طائفة مقبرة؟! لماذا؟ وعلى ماذا نخاف؟

هل نخاف الاختلاط بعد الموت؟ وهل تتخالط وتتعاشر الجثث المحبوسة في حفر مطمورة على حجم الجثة؟

أم نخاف أن يختلط الأمر على رب العالمين ساعة النشور؟ وكأنه تعالى معرَّضٌ أن يلتبس عليه فرز أتباع هذا الدين أو تلك الطائفة ممن يريد أن يأخذهم من أولئك الذين لا يريد أن يأخذهم؟ !

على ماذا نخاف؟ ولماذا الاصرار بشدة على فرز المقابر؟

نحن في السجلات مفرزون بحسب دياناتنا ومذاهبنا،

وفي المدرسة مفرزون بحسب أدياننا،

وفي البيت مدربون جيدا كيف نذهب إلى الجامع الفلاني وليس الآخر، إلى الكنيسة الفلانية وليس الأخرى،

وفي الصداقات مستجوَبون بحرص عن دين وطائفة صديقنا،

وكان المتوقع أننا لن نرتاح من هذا الفرز إلا عند الموت، وإذ بنا، ويا للهول، مفرزون عند الموت أيضاً!
لماذا؟

لماذا لا تكون هناك مقبرة لكل ميت؟ فقط لأنه آدمي ميت؟

يلتقي فيها الأموات بتراب الأرض الذي ينتظر الجميع،

ويلتقي فيها الأحياء لأنهم جميعا يأتون لسبب واحد وحيد: البكاء والتحسر على عزيز فُقِدَ.

ستسألني: لمن توجه سؤالك هذا؟

وسأجيب: لست أدري؟

فأنا لا أعرف من مسؤول في الدولة عن هذا الأمر؟

لا أعلم، هل أوجهه لرجال الدين؟

أنا رجل دين، ولا أجد غضاضة في أن يكون قبري إلى جوار أي إنسان مهما كانت طريقة حياته ومهما كانت معتقداته، وما همني؟ مادام المسكين سيلتحف التراب كما سأفعل أنا؟

هل حقا هناك أسباب دينية شرعية تمنعنا من الموت في نفس الأرض بدون سور يفصل أرض قبري عن أرض قبرك؟ أم أن السبب لا يعدو أنه هكذا كانت العادة من القديم، وهكذا ما زلنا نفعل؟

ولكن إلى متى؟

حلب 22 تشرين1 2009