من مفكرة نازح

كابوس حلب

اليوم أختم أسبوعي الثالث خارج حلب، متنقلا بشكل رئيس بين دمشق وبيروت. وما تزال ظروف وأحوال حلب: الحجر، الأصدقاء والأقرباء، أخوة وأخوات الكنيسة، تلاحقني في كل خروج ودخول، في كل لقاء وعشاء وغداء! حتى إنني كثيراً ما أشعر نفسي قابعاً تحت كابوس يعايشني كل يقظتي وصَحوتي وخلال ذروة نشاطي.

في كلّ وجبة طعام أقترب إليها، يَنصبّ جهد عقلي على إحصاء أصناف الطعام أمامي، وعدد ما هو مفقود في حلب، وإذا تركني مَن حولي لدقائق صامتاً، غرقتُ بحساب عدد الأسابيع والأشهر التي مضتْ منذ فقدنا اللّبن مِن المدينة، أو الدجاج، منذ متى لم نرَ هذه الفاكهة أو تلك.

ويوم دعاني صديق لمشاركته وجبة في مطعم، كنتُ في حيرة واضطراب شديدين، بين غرابة المكان، وتنوع الطعام وكثرة اللحم، وشعوري بجفاء كبير أُجمِّعُه بيني وبين مَن تركتهم في حلب.

أما المؤثرات الصوتية "الحقيقية" للمعارك والقذائف والصواريخ، فيبدو أنّها انحفرَتْ
في داخلي نَقشاً لن يُمحى. ففي بيروت – وهذا مِن الغرابة – ما أكثر ما تنطلق
الألعاب النارية هنا وهناك لربما كل ليلة، وإلى أنْ أعي أنَّ الأصوات ليست سوى
ألعاباً ناريّة، فإنّ لحظات مِن اعتصار القلب تَعبرُ كافِية لتندية جبيني عرقا.

وفي يومٍ كنتُ أعبر تحت جسر كبير، هاجم صوتٌ أُذناي، سرعان ما دَخلَ داخلاً مُعتصراً قلبي، فالصوت أشبه بِراجِمةٍ بدأت بلفظ نيرانيها، وإلى أنْ انتبهتُ أنّ الأمر ليس أكثر مِن سياراتٍ تَعبر الجسر، وتطرق عجلاتها مقاطع الاسمنت عليه، كان الزمن كافياً لِيَلفت انتباه صديقي لِيُجبَ على سؤالي المتلهف: ما في راجمة ولا شي، لا تخاف يا رجل!

أبرز نشاط –ولعله الوحيد – الذي قمتُ به مع عائلتي خلال هذه الأسابيع، كان قضاء يوم مع مخيم للكشافة – الفوج اللوثري البحري – والمخيم كان على شاطئ البحر! كان الجو لطيفا من نواح كثيرة: الأولاد والبنات والأنشطة الجميلة التي يقومون بها، الخيم قرب الشاطئ، البحر، الرمل، بهجة الناس إضافة إلى طقس معتدل مريح. أما في داخلي فكان يوما صاخبا ضاجّا مُتعبا، فقد ذهب معي كابوس حلب إلى هناك! وكم مشيت على الرمل ذاهبا وآيبا، أفكر في داخلي بحلب: الحجر، الناس، الأصدقاء والأقرباء وأخوة وأخوات الكنيسة، وقد زاد علي أن ذلك اليوم أحضر معه انقطاعا جديدا للخطوط الهاتفية والانترنيت!

ماذا يفعلون؟ هل يوجد أكل؟ هل تتوفر الكهرباء؟ هل مِن الطبيعي أنْ أستمتع هنا بينما هم في سجنهم الكبير - حلب؟ بهجة الناس مِن حولي – حقيقية أم مصطنعة – قضّتْ مَضجع أفكاري ومشاعري، بمحاولة قياس مِقدار مأساة أحبائي وإخوتي هناك! هل أبتهج بهجتهم وألعب ألعابهم وأتسلى تساليهم ...؟ والواقع كان مُقرراً
أنْ أبقى حتى مُنتصف الليل حيث يُنهي الكشافة مخيّمهم بسهرة "النار"! لكنني
لم أستطع فقفلتُ راجعاً بعد الغداء مباشرة!

في هذه الأسابيع الثلاثة، لم أكنْ محتاجاً إلى صُور أو لائحة أسماء، ولا إلى نشرة أخبار تُذكّرني بحلب ومَن فيها وأحوالهم، كانتْ حلب كابوسا يجلس بجواري في كلّ تحركاتي النهارية!
وحتى كتابة هذه الأسطر يَستمر طريق حلب مُغلقاً في وَجْه المسافرين، وهذا يعني
أياما أخرى وربما أسابيعَ أخرى أعيشُها بمرافقة هذا الكابوس، فهل سأحتمل ضغطه
عليه؟

بيروت 1 أيلول 2013