طاحونة حلب

هي دورة الحياة اليومية في حلب، طاحونة مزعجة بكل ما فيها وعليها أو منها، صوتها زعيق يصم الآذان، وحركتها مشوشة "تشربك" الريح، ورائحتها رطوبة وعفونة، أما نتائجها فلا شيء، كأنها تدور في فراغ!

يومياتنا بسيطة قصيرة ومرهقة،

فيومنا قصير. لا يبدأ قبل العاشرة أو حتى الحادية عشرة صباحاً، وينتهي مع غروب الشمس، وهو في كانون يسابق الخامسة مساء. لتبدأ معه أصعب مراحل النهار.. في البيت! في البيت يعني ثلاثة تتسابق بالصعوبة: كهرباء، ماء وبَرْد! فالأعراس والجنازات تُنجز بين الساعة 11 و 13 ظهرا، سهرات السمر تنتهي بين الخامسة والسادسة، والبعض يجازف مُخاطرا فيبقى حتى السابعة، وآخرون أصابهم جنون يستمرون في زياراتهم حتى الثامنة! أنا أعرف أن الذين زاروا حلب من قرائي لن يصدقوا.

وحياة أجدادنا حاضرة. في طاحونة حلب، استذكرنا جميعا حياة أجدادنا، وبعض معالجات مآسي الحروب العالمية! فالثلاثي الأليم: الكهرباء والماء والبَرْد، جعَلَنا نهجر كثيرا مما عرفناه خلال الخمسين عاما الماضية، واشترى بعضنا "بابور الكاز" بعشرين وثلاثين وحتى أربعين ضعفا من ثمنه الذي ما كان أحد يرضى أن يدفعه ثمنا لخردة اسمها "بابور كاز"، وطار سعر الكاز من 20 ليرة إلى 200 فهجره أصحابه، والبعض نبش فانوس الزيت من قبره. واستذكرنا أطعمة لا تحتاج إلى نار "للطبخ"، واستخدمنا لأول مرة، وبدون زوار ينامون لدينا، كل البطانيات واللحف وما تيسر مِن أغطية كنا نحتفظ بها لا ندري لماذا! وسهرنا في بيتنا – بدون ضيوف – بكامل لباسنا، يعني بالجاكيت والقبعة الصوف!

ثم بدأنا نختصر الحمام، لماذا كل يوم؟ لنجعلها ثلاث مرات في الأسبوع، ولكن أليس كثيرا، لنجعلها مرة في الأسبوع، ثم جربنا أن نستحم كل عشرة أيام أو أسبوعين مرة، ولستم بحاجة أن تتخيلوا تفاصيل هذا الأمر!

طبعا الثلاثي البشع – الكهرباء والماء والبرد – أحضر معه مناظر ومشاهد ومسرحيات كثيرة، حتى اضطررنا إلى تشجيع الناس في الكنيسة، إلى عدم الخجل من الثياب غير المكوية، أو الشعر الواضح أنه غير ...

والحاجة كالهواء. وأقصد بالحاجة الفاقة، يعني العَوز! وأقصد كالهواء أنها كثيرة كما الهواء كثير! نحن لسنا فقراء، بمعنى عدم امتلاك ثياب أو طعام مقبول على مدار الأسبوع، أقصد هكذا كنا، أما اليوم فلا أحد يستطيع أن يضع لنا تصنيفا. فلقد اختصرنا من قوائم مشترياتنا المازوت للتدفئة والحمام، والبنزين للسيارة، والخبز إلى أقل من خمْس الاستهلاك الذي اعتدنا عليه كل حياتنا، كذلك استخدام التكسي، فأجرتها أصبحت بسعر تكسي المطار، والسرفيس فأجرته صارت بسعر التكسي، أما تكسي المطار فأضحى سعرها كسعر السفر من حلب إلى عمان وبيروت بالتكسي، ولا تسألوني عن سعر السفر إلى بيروت وعمان، فهو أقرب إلى المستحيل سعرا وأمنا ووسيلة!

ويوم سألني أحد الأخوة عن عشاء شركة "عشاء محبة" في الكنيسة، لم أجبه، اكتفيت بنظرة معينة، فكانت كافية حتى أنه فهم إلى درجة أن اعتذر – وما رجع يعيدها! وأما أنت قارئ هذه الكلمات، فلا تسألني عن أي شيء متعلق بالطبابة والاستشفاء، لأنني سأكتفي بجوابي لك بعلامتي التعجب والاستفهام المتجاورتين هاتين !؟

ومواضيع أحاديثنا جديدة. فهناك الحديث عن أنواع الأسلحة، فالروسية: منها العراقي ومنها الصيني ومنها الروسي ... وهناك رشاش الدوشكا، وهناك الهاون وسواها من الأحاديث. وهناك الحديث عن بطولات المعارك – من محبذي هذا الطرف أو ذاك الطرف – وقصص هولوودية تصلح بلا أدنى تعديل فِلْما من الأفلام الأميركية الخرقاء. وهناك توقعات معركة الأمس، وتوقعات معركة الغد هنا أو هناك، وهناك خبريات الخطف والفدية، والتعذيب، والقتل على الهوية – حسب المنطقة أو المذهب، وهناك أحاديث الفيزا المزورة لهذا البلد أو ذاك، وأحاديث التهريب من تهريب الناس إلى المازوت إلى الدواء إلى السلاح وكل ما لا تتوقعه أو تتصوره.

وهناك أحاديث الأسعار وتوفر المواد، وهي متغيرة لا يعيش الخبر منها أكثر من يومين أو ثلاثة! يعني انت متصور سعر كذا هكذا؟ ويأتي السؤال: يعني متى اشتريت آخر مرة؟ وتجيب ببراءة: قبل أمس. وتنال الجواب المغلَّف بالاستصغار: وينك وين! هذا السعر كان أيام زمان! وهذه البورصة لا تنطبق على الأشياء الثمينة والاستثنائية، إنها تنطبق على الخبز والبندورة والبرتقال واللحمة والطحين والزيتون والبطاريات ...

وهناك أحاديث البضائع المسروقة التي تُباع هنا وهناك، وهناك أحاديث العملة المزورة التي تُطرح هنا أو هناك، وهناك أحاديث لا تنتهي ولا تتوقف...

وهنا صوت الطاحونة، لا يعلو صوتها سوى سقوط قذائف الهاون أو بعض الصواريخ هنا أو هناك، لتحصل على هدوء قسري لبضع ثوان، ليعود صوت طاحونة حلب يَـئزّ في الآذان، وغبارها يعلو الرؤوس، تتحرك بشكل عشوائي لا هديَ فيه، تأخذك شمالا لتجد نفسك ربما في الوسط، أو تأخذك جنوبا لتجد نفسك ربما غربا!

لقد تعبنا منك يا حلب أنت وطاحونتك.

 

الطاحونة 29 كانون2 2013