طاحونة حلب 2

 

في بداية السنة كتبتُ واصفا حال حلب وحالنا مع هذه المدينة التي أصبحت تشبه أي شيء ما عدا المدينة! ووصفتها بطاحونة تقتلنا بضجيجها وبكثير من المتاعب التي لم نعهدها ولا آباءنا. واليوم، بعد مضي نصف سنة على ما كتبت، أخبركم أن طاحونة حلب تطل علينا بوجه جديد قبيح وهو فقدان مستلزمات استمرار الحياة – عدا الهواء!

في الطريق، سيارات قليلة جدا جدا، ومشاة قليلون، ليس خشية معركة هنا أو صاروخ هناك، بل لانعدام أسباب خروجهم للمشي. مشاة وجوههم مكفهرة ناشفة بائسة تطالعك وأنت تعبر الطريق، أي طريق من طرقات المدينة، والكل يديه فارغة، ذاهبا كان أم آيبا!

يخرج لعله يجد ما يشتريه لأولاد ينتظرونه في البيت لا يعرفون سوى صورة واحدة للبابا العائد للبيت، لابد أن يكون حاملا كيسين أو ثلاثة، بغض النظر عن محتوياتها. يخرج، يجول ويجول ويجول، ثم يعود بيدين فارغتين كما خرج، مشتت ما بين يقينه أن الليرات الباقيات في جيبه لن تشتري شيئا ذا قيمة، وحاجة العيلة للخبز والسكر والرز والزيت والبندورة والخس و... و...

 

يلعن في داخله الحرب والموالاة والمعارضة والمقاتلين السوريين والأجانب، يلعن في قلبه ما أوتي من كلمات وأفكار وأشخاص، حتى يصير لعنه طاحونة ضجيجها في داخله يصمّ أذنيه فلا يأبه لما يجري في الطريق، وفي كل حال لا يخشى من سيارة تضربه، فنادرا ما تمر سيارة!


 

سحقت طاحونة حلب كل البسطات التي كانت تملأ كل الأرصفة والشوارع، وكنا قريبين من كرهها وأصحابها، وذلك بعد أن كانت قد دمرت دكاكينهم ومحلاتهم ومعاملهم وكل أبواب الرزق التي كانوا يتسببون منها، وباتت الأرصفة شبه فارغة!

 

سحقت طاحونة حلب كل الرغبات والأمنيات حتى السخيفة منها والتافهة والتي لا تقدم ولا تؤخر، حتى رغبة أو حاجة – كما تريد أن تسميها – الخبز والبطاطا والباذنجان والكوسا وكل أكلة يقتات عليها الفقراء والمساكين.

 

سحقت طاحونة حلب حتى حلم العثور على شيء "ما" في حاويات الزبالة! فالحاويات زاد روّادها، وقلّ مردودها. واحد يردها وآخر يتركها والكل يتفش وينكش وينبش، ليتركها خاوي اليدين، فارغ الحلم!

 

والطاحونة تدور، ويدور معها سكان حلب دوران التائه الضائع المسحور. مَعِدات خاويات، رؤوس انقطعت فيها الحيلة على صنع الأكل لانعدامه، وأطفال انخفضت كميات أكلهم للربع، فبقيت أفواههم مفتوحة من الجوع والطلب و "النق"! لم يبق في البيوت – إن بقي - سوى قلي من الرز بأنواعه السيئة، والبرغل الملون بالبحص والعيدان، ولكن ماذا يفعلون به بلا زيت أو سمنة، ولا أحد هنا يسأل عن المادة المسماة "لحم"!

 

في الواقع، بدأنا نكرهك يا حلب، أنت وطاحونتك النتنة.

 

الطاحونة 14 تموز 2013