من يوميات حلبي

هبَّ مِن فِراشه بعد أنْ انتبه أنّ الساعة قد تجاوزت السابعة وهو يُنادي زوجته: قومي يا مرا اتاخرتْ كثيرا. لَبِسَ بِنْطاله وقميصه و"الشحاطه" بسرعة، سَكَبتْ على يَديْه مِقدار "كاسة" شاي مِن الماء لِيَغسل وَجْهه، وانتبه لِتوّه فسألها: هل أيقظتي حسون؟ أجابته: الولد نايم ماذا تريد منه؟ أيقظيه لِيَذهب معي ويَتَعلّم المصلحـة، لربما أصابني مكروه يوما ما، أو وجدتُ عملا ما؟

أسرعتِ المرأة وأيقظتِ الولد ذا السنوات الثماني، وبسرعة دَرَجَتْ رغيفاً مِن خُبزِ الفرن بعد أنْ رَشَّتْ عليه قليلاً مِن الزعتر على "لَـحْسِة" زيت، وأعطتْها للرجل وواحدة أصغر لحسون الصغير. حَمَلَ كلّ منهما وعاءً كبيراً وخرجاً مِن البيت وهي تُنادي خلفه: الله يوفقك ويخلليلي ياك، الله يرجعك بالسلامه الله، ينصرك على أعدائك، الله يبعتلك أولاد الحلال...

التفتَ للخلف وقال لها مع نظرةٍ تفهمُها تماماً: ادخلي لجوّا. فانطفأتِ الماكينة تماما. أغلقت الباب، وراح يَنْهش صندويشة اللحم التي بين يديه، والولد يُهرول خلفه، وما أنْ اقترب منه حتى بادره بالسوال: هل سنتأخر بابا؟ فبادره أبوه بعد أنْ نَهَش مِن الصندويشة لقمةً كبيرة: شو في عندك عِيني؟ أجابَ الطفل: في مباراة على التلفزيون وبحب شوفها. أجاب الرجل مُتهكّما: ليش في كهربا "جدبه"؟ فَهِمَ الولد الفحوى المزدوج للعبارة، فَصَمَتَ وصَمَتَ الرجل سوى عن صوت لَوْكِ الخبز الناشف الذي زاده الزعتر نشافا!

عشرون دقيقة مِن المشي كانت كافية لإيصالهم إلى المكان المقصود، حيث استبشر الرجل خيراً فلم يَسبِقَه إلى المكان  سوى عشرون رجلاً وقليل مِن الأطفال. 

انحنى الرجل نحو ابنه وراح يُعيد عليه نفس الملاحظات اليوميه: ابقَ بالقرب مني، لا تَدَعْ أحداً يَدْفَعَك، يجب أنْ تَدْفَعَ الجميع لِتَصلَ إلى حَنَفيّه الماء، لا تترك الغالون مِن إيدك مهما صار، بْدّي أقصف عمرك إذا ضاع...

بَدَأَ البرنامج اليومي مِن الوقوف عل الدور، تَدَافُع مِن وقت لآخر، حديثٌ مع هذا، نظرة فاحصة لتلك، تَنْفيخ سيكاره وقت آخر، لِيَكْتَشِفَ أنّ حسون قد أَفْلَتَ الغالون لِيَصفعَه على رقبتِهِ وهو يصرخ به: مو قلتلك يا حـ ... لا تترك الغالون مِن إيدك؟

وهكذا مَرَّتْ ساعتان غَنِم بهما الرجل غالونين مِن الماء أيْ خمسين ليتراً مِن الماء، وكلّ هذا بِغُضون ساعتين، والأمر تَـمَّ بهذه السرعة لأنّ سيارة للمسلحين لم تأتِ لِتَملأ البراميل التي معها، وتملأَ بِطَريقها أَوعِيَة النساء اللّواتي ضَحِكْنَ لهم، أو اللّواتي غَمَزْنَ أحدهم.

حَمَلَ الرجل الغالونين عائداً إلى البيت وهو يُعِيدُ على الولد اسطوانتِهِ اليوميه: الحمد لله عل هذه النعمة، خمسين ليتراً مِن صْبْح الله، الله طَلَّع بوجهنا يا حسون، هل انتبهت كيف ضْحْكت على فلان وأخذتْ دوره؟ شْفْت شو عْمْلت لما أرادوا أنْ يلعبوا بالدور؟ لازم تتعلم يا ابني. وحسون كان يَسِير على هَواه بجانبِ والدِهِ الذي لم يَعُدْ يستطيع السير سريعاً كما كان يَفعلُ بِرِحلةِ المجيء، وهو يَرْكُل حجرةً هنا، وعُلبةً هناك.

كان الرجل مَزهوًّا تماماً بانجازه الكبير، لكنّه لم يستطع أنْ يَرفع رأسَهُ ويَشدّ ظَهره عالياً، لِسَبب الحِمْل الثقيل الذي يَنُوء تَحته. استغرقَ طريق العودة خمسة وأربعين دقيقة، طبعاً بسبب الحِمْل الثقيل الذي كَادَ يَكسر ظهره.

وَصَل إلى البيت بعد استراحاتٍ عدة اصْطَنعها كُلّما مَرَّ بشخصٍ يَعرفُهُ أو لِيُجيب شخصاً سأله: مِن أين أتيتَ بالماء؟ هل في زحمة؟ أسرعتِ الزوجة لاستقبالِهِ وابتسامة عريضة جداً تُلوّن وجهها. تناولتْ غالوناً مِن الزوج الـمُنْهك وهي تُعيد عليه: الله يخلليلي ياك، الله ما يحرمني منك، تعيش وتجيب يا أبو حسون... ارتمى الرجل على أقرب كرسي، وراحتْ تَمْسَح عَرَقَ وَجْهه بِكُم قَميصها وتَدسّ ظَهرَه الذي بَلّله العرق كأنّه كان واقِفاً تحت مِزراب ما، ثم ترَكتْه لِتُسخّن له كاسة الشاي التي لم يَشْربها قبل خُرُوجِهِ مِن البيت.

تمدّد الرجل على الصوفا وهو يشرب الشاي ويُعيد عل زوجته بطولات الرحلة الأولى مِن يوميه المشؤم الجديد، وهي تُعيد عليه نفس الأسئله التي اعتادتْ على سؤالها، وهو يُجيب باسهاب مُظهراً تفوّقه وأهمية انجازه هذا، مُتهربا مِن اجابتها كلما سالته: كان في نسوان هناك؟

بين الشاي وإنهاء رغيف آخر مَضتْ ساعتان، ارتاحَ بهما الرجل وَجَفّت ثيابه مِن العَرَق الذي بَلّلها، فبادرته الزوجة: ألا تُريد الذهاب لِتُحضر لنا شي غالونين يا زلمه؟ فانفجر بها صارخا: يْلعن ... المي، يَعني عَمْ تْفَضّي غالونات المي بالمرحاض؟ انكسر ضهري مِن نقل الماء، ما بَقَى فِـي بالحياة غير نقل الماء؟ خفّفوا الاستخدام شوي؟ في حدا بيصرف باليوم مية ليتر ماء؟ والله كْرْهت الحياة معك ومع أولادك.

هبّ الرجل مِن مَقعده كالثور الهاج، وهو يصرخ بتلك العبارات وسواها، والجميع في جمود عن أية حركة أو كلمة. تناول الغالونين وخرج بعد أنْ نادى حسون لِيَلحَق به، فتبعه الولد مَتبوعاً بِدُعاءاتها المعتادة حتى أغلقت الباب خلفه، فقد قررت مسح البيت اليوم!

 

حلب البعلية 29 حزيران 2014