الحصار الخفي

 

على قدر ما أعرف، لم يُعاصر أحدٌ مِن الأجيال الحيّة التي تسكنُ الأرض الآن، حِصاراً كالذي يَعيشه الإنسان في بِقَاع هذه الأرض! فالناس في كلِّ مكان، مِن كلِّ جِيل، مِن كلِّ لون ومِن كلِّ مَركز ومَقام يُعاني مِن هذا الحصار، أو يَتَرقّبه وهو يَتحرك بِخَفاء وصَمْت مُتتبّعًا خطة لم يَستطع أحد أنْ يَفك لُغتها حتى الآن.

في بعض البقاع، مدن لا حُدود لها تَقضي أيامها ولياليها مُقْفرة كَبَادية رملية. وفي بقاع أخرى أشخاص لا حَصْر لهم يُعانون وينتظرون الموت، الذي يُسارع بَعضهم، ويَتدلّل على البعض الآخر. وفي بقاع أخرى يَتَلفّت الناس مُتحيّرين مُتَشكّكين: هل أنا أداة مِن أدوات هذا الحِصار؟ هل أنت؟ هل مِن المعقول تلك الجماعة التي تَسير هناك؟

ومع هذا، لا أحد يرى شيئاً، لا أحد يَسمع شيئاً ولا أحد يَلْمس شيئا! لكنّ الجميع مُتأكّدون أنّهم مُحاصرون ولا مَهْرب. لكنْ كيف نَفك حِصاراً لا نراه ولا نسمعُه ولا نَعرف شيئًا عنه!

أذْهَلتني هذه الصورة الغريبة جدا. وذَكّرتني بِصُورة آدم وحواء الهارِبَين مِنْ شَيءٍ لم يَعْرفاه ولم يَفْهما مَعْناه يَومَ عَصَيا الوصية وَشَعَرا أنّهما مُحَاصَرَين، ومُضَطّرَين للهروب ولكنْ إلى أين؟ وممّ يَهربان؟

لم يَعْرفا!

الآن، بدأتُ أَفْهم أكثرَ مِقْدار الحَيْرة والتردّد الذي أصابَهما، وشَكْل التخْوين والتَّلَفّت الذي حَاصَر تَفكيرَهما، بينما كانا يُحاوِلان فَهْم ما حَصَل، وتَوْصيف ما أَصَابَهما.

تماماً كما نَفْعل الآن، فهذا يَتَساءل عن إرادة الله فِيما يَحصل، وذلك يُفسّر تأثرات الخطيّة في حياة البشرية، وآخر يَتَحدّث على قواعد الأكل وطُرق تَحْضيره، وآخرون يُحاوِلن رَبْط ما حصل بالعَوْلَمة وما أَحْضرتْ معها مِن مَصائب، وربّما التغيُّرات البيئية المُرعبة أو ربّما ثقب الأوزون الذي رقّعوه!

هكذا وَقف الإنسانان الأوَّلان يُفسِّران حِصاراً يَخْنقهما دون أنْ يَفهما حقيقة أبعادِه!

هكذا نَقف كلُّنا اليوم داخِل حِصَارَيْن تَملأُنا الحَيرة والتردّد والخوف:

حِصَار الإنسانَيْين الأوَّلَيْين الذي وَرِثْنَاه، وما يَزال يُثقل كَاهِل الناس ويُتعب أرواحَها، بالرغم مِنَ العلاج النّاجِع الذي حضّره السيد المسيح بالموت والقيامة.

وحِصَار الفيروس المُمِيْت الذي نُصلّي نَجَاح التّجارب الكثيرة التي تَجْري هنا وهناك لِصَناعة عِلاج يُبْطله ويَفكّ أَسْرَنا!

 

كالغري 13 آذار 2020