الحلم  الكردي

عادة ما يتعلم السياسيون من تجاربهم الخاصة كما من تجارب سياسيين وشعوب أخرى مروا بتجارب تشبه ما يمرون به مع شعبهم. ومن الطبيعي ألا تتطابق خبرات الشعوب في كل أو بعض حقبات حياتها، إلا أن تشابها ما لابد وأن يظهر، خاصة بين تلك الشعوب التي تتجاور في الجغرافيا، أو تتماثل في الصعوبات والأزمات والكوارث التي تصيبها. إلا أن الأكراد حطموا هذه الـمُسلَّمة كليا، برفضهم بتعمد أو بعدم فطنة أو لغايات فردية، مقاربة التجربة العربية التي شاركوها مطباتها، وحملوا جزءا من آلامها ومعظم إحباطاتها.

اليوم يطبل ويزمر الأكراد للدولة "الموعودة" التي ستعيد – كما يشيعون – للأكراد كرامتهم وتراثهم وحلم مملكتهم التي سحقتها أحداث تاريخية كثيرة وقوية وبعضها قاهر. ولكن يا ليت من يخططون لهذه الدولة ويعملون المستحيل لاقناع شعبهم بواقعية هذا الحلم، ينظرون إلى أوجه المشابهة بين قيام الدولة أو الدويلات الكردية المنشودة، وقيام الكيانات العربية التي احتار العرب أنفسهم في تسميتها كيانات وطنية أو قومية، وهي برأيي في كل حال فذلكة لا قيمة لها.

فالدولة الكردية المنشودة تشبه في توزع شعبها على كيانات سياسية مختلفة، لن تستقل إلا بشق الأنفس وربما لن تستقل، تماما ما حدث مع الكيانات العربية التي مانزال نتعذب معها على مدار ستين أو خمسين عاما! فالحلم كان انشاء كيان عربي واحد، أو كأقل تقدير، كيان اقليمي واحد، أو أقل من أقل تقدير، انشاء تحالفات ثنائية أو ثلاثية بين بعض هذه الكيانات العربية، ولكن هذا لم يتحقق، ولا أرى له تحققا في المدى المنظور. بربكم ألا يشبه توزع الجماعات الكردية على جغرافيا مختلفة متباعدة نفس الأزمة والحالة؟

والدولة الكردية المنشودة تشبه في لغتها المتضعضعة تضعضع اللغة العربية، التي بقيت مفسوخة بين لغة القرآن القديمة والعسيرة، وتحديثات لغوية خجولة وسخيفة، وبين لغة فصحى قتلت الحكومات العربية نفسها لتعميمها، ولكن الانتصار بقي للهجات محلية متعددة وَأَدَتْ أي شكل حياة حاولت الفصحى تكوينه على الصعيد الشعبي! واليوم يتغافل القادة الأكراد عن هذه المشكلة نفسها التي تعرقل وستعرقل التواصل الكردي - الكردي، مع سيادة أربع أو خمس لهجات كردية – على الأقل - تصل إلى حد لا يفهم بعضها ما يقول البعض الآخر!إضافة إلى عدم وجود كردية قرآنية يحتكمون إليها كما يفعل العرب كلما اختلفوا باللهجات، فمن أين سيأتون بالقاسم المشترك؟

ثم ماذا يعني قيام دولة كردية في بقعة جبلية صغيرة معزولة عن البحار في شمال العراق؟ كيف ستعيش هذه الدولة بين مجموعة من الأعداء؟ فالإيرانيون لن يصيروا أصدقاء، والأتراك لن يصيروا أصدقاء، والعرب السوريون لن يصيروا أصدقاء! وكيف ستلبي هذه الدولة المسكينة احتياجاتها؟ والجميع – حتى أولاد المدارس – يعرفون أن البترول سيعايش جيلا أو جيلين كأكثر تقدير! نعم ستبقى محدودة كما بقي الأردن وهو يصر على تحويل نفسه إلى كيان مستقل، وكما بقي العراق وهو يصر على تحويل نفسه إلى كيان مستقل والأمر نفسه ينطبق على سائر الدول الموسومة بـ "العربية".

فعلى ماذا المراهنة؟ هل على حرب عالمية ثالثة تقسم العالم بطريقة جديدة، أم على انتصار "داعشي" يضعضع تركيا ليستقل القسم الكردي فيها، ويهز إيران ليستقل القسم الكردي فيها، ويفتت سوريا ليستقل القسم الكردي فيها، ويكمل بالتالي تقسيم العراق لينتج الدولة النواة!

نعم، هناك مراهنة كبيرة على الأكراد في الغرب، فهم الصوت الذي طالما ارتفع مطالبا بحق الأكراد بقيام دولتهم المستقلة، لكني أسأل، هل رأيتم ما قدم المغتربون الأرمن لإرمينيا المستقلة؟ بل أنتم من عاصر تقدمات المغتربين العرب لبلادهم العربية، فماذا قدموا غير الشعر الذي "يشرشر" عاطفة وبعض التحويلات المالية التافهة لذويهم وأهلهم! ألم تروا وتعايشوا هذا؟ بل والغريب في الأمر أننا نعايش لجوءا مستمرا للصفوة الفكرية والسياسية والاقتصادية الكردية للغرب تماما كما تفعل الصفوة العربية! تراه البارحة يصرخ بملء حنجرته من أجل حقوق الناس واستقلال البلاد، ليختفي اليوم عن المشهد العام كليا، لتجده غدا يطلب اللجوء إلى إحدى الدول الغربية أو يتزوج بغربية أو يبدأ تجارة ما في ذلك الغرب!

هل نتحدث عن الفساد؟ فهنا نُغرق أنفسنا في مستنقع يشبه المحيط حجما. أية دولة هذه التي ستقوم على منهجيات تعامل لها جذور عميقة وتراث مُيعِب من الفساد والمحسوبيات واستغلال المناصب حتى النهاية! فليخبرنا أحد عن سبب تناهي حجم الأحزاب المعارضة للحزبين الرئيسيين في شمال العراق! ماذا سيفعل مسؤولو الدولة الجديدة في المساواة؟ هل سيسمحون لنصف مليون كردي أن يصيروا بهائيين مثلا أو بوذيين؟ فصورة الحرية الفكرية والسياسية والدينية التي يرسمونها كواحة ينعم بها بضعة آلاف من "المختلفين" عن الأغلبية ربما تخدع البعض لكن ليس الجميع! فما أعطوا للمسيحيين من سريان وآشوريين أو أكراد يزيديين وسواهم لا يزيد بشيء عما أُعطي لأولئك في عراق صدام، أو في سوريا أو الأردن وفلسطين عرفات!

هل أنا متشائم؟ لا، كل ما في الأمر أنني أرى الشباب الكردي كما الشباب العربي الذي يدين بالإسلام، وقودا لمحرقة لن تقدم لهم سوى احتراقهم حتى الرماد، لتبقى الساحة فارغة للاعب يدخلها ليلعب فيها منفردا، وعليه لابد له أن يكسب لانعدام اللاعبين!

 

حلب 30 حزيران 2014