العَلَم والكنيسة

من الملفت للانتباه هذا التحول في الكنائس، من حيث استحضار أعلام البلاد في قاعات العبادة وأثناء الصلوات وخلف الوعاظ!

لماذا تضعون "العَلَم" في الكنيسة وخلف الوعاظ؟ وما الرابط أو العلاقة بين مجموعة مسيحية تجتمع لتعبد إلهها ومخلصها، برمز قومي مادي غير مسيحي؟ وأقصد بـ "غير مسيحي" أنه لا ينتمي بشيء إلى الكتاب المقدس أو أدوات ومواد العبادة وطبعا لا يمت لتراث الكنيسة!

هذا العَلَم، هو رمز لانتماء بشري أرضي محدود، وهذا ينفي عن الكنيسة طابعها العام بمعنى العالمي. ماذا سيكون موقف جماعة بشرية تنضوي تحت ذلك العَلَم، لكن ذلك العَلَم لا يُنصفها، ولا يعترف بحقوقها؟ لن أقدم هنا أمثلة من المشرق، لأن أشداق الطبالة ستخرج بأغنية "اللحمة الوطنية" الفارغة. فكر معي مثلا بالحالة الصينية التايوانية، أو دول ومناطق البلقان.

للكنيسة دور عالمي، بمعنى أن تحمل البشارة إلى كل إنسان مِن أي خلفية كان، وفي أي مكان كان، كيف ستحمل كنيستك بشارة الخلاص لشخص له مشكلة مع علمك!

هذا العَلَم، رمز لانتماء أرضي، يموت الناس من أجله، أو يَقتُلُون الناس بسببه. والكنيسة إنتماؤه سماوي، مات مخلصها من أجل كنيستك ومن أجل الناس. كل الناس تعرف وتتذكر وتتناقل ما حصل تحت هذا العَلَم وبسبب هذا العَلَم. ألسنا كلنا لدينا نفس الشعور نحو العَلَم التركي مثلا؟

يدخل الناس إلى الكنيسة من العالم، بمعنى كأنهم يخرجون ولو بشكل مؤقت من انتماءات العالم وهمومه ووحشيته وكراهيته وصراعاته، ليدخلوا إلى مكان هدوء وسلام، مكان يأخذ أنظارهم وأفكارهم وآذانهم وطبعا مشاعرهم إلى مكان مختلف كليا، كأنه تحضير للدخول إلى السماء.

فإذا أدخلتهم إلى الكنيسة ليوجهوا ما تركوا خارج الكنيسة، فماذا فعلت الكنيسة إذا؟ وما الدور السماوي الذي فعلته؟

العَلَم - ولعله البعض يستصعب هذا - رمز لكبرياء وعجرفة القومية. القومية حالة استعلاء وفرز وانغلاق. لهذا، فإن الناس يبحثون على المستوى القومي عن أسباب تميزهم ووسائل الافتخار بهذا التميز. وستكون الكارثة عندما لا يجد شعب من الشعوب سوى التفاهات تميزه، ويجتهد عندئذ في البحث عن وسائل الافتخار على الشعوب الأخرى والتميز عن الآخر الذي هو – حتما – بنظره أقل شأن وأخف وزنا!

مرة أخرى أنا مضطر لإعطاء أمثلة عن شعوب أخرى – وفهمكم كفاية – هذا ما حصل مع ألمانيا في الفترة النازية، الشعور الكبير بالتفوق القومي والاستعلاء على الشعوب والانتماءات الأخرى، سهلت لمحبي هذا التيار أن يدوسوا تلك الشعوب، ولعلمك داسوا بطريقهم الكنيسة أيضا! نعم نفس الكنيسة التي ربما ترفع فيها علمك، ربما ستجدها في وقت قريب، أو ربما في وقت قريب مضى، داسها التيار القومي بطريقه وهو يدوس شعوبا وجماعات أخرى، لأنهم أقل شأنا!

وهذا سيستحضر السؤال: إذا ماذا نفعل ونحن ننتمي تلك القومية وذلك الشعب؟ طبعا كل منّا ينتمي لقومية وشعب وإثنية معينة، لكن ما أنت بحاجة إليه هو برمجة شعورك القومي وانجرافك نحو الافتخار به، حتى لا يطغى على محبتك للمسيح، وبالتالي محبتك للشعوب الأخرى بالمسيح.

 

عبر كل التاريخ، لم تضع كنيسة من الكنائس علما في مكان العبادة، حتى وقعت بعض الكنائس الأميركية في هذا التشويش السياسي الديني المقيت، وحملته إلى الشعوب الأخرى، والآن مع الأسف الشديد، ينتشر ويُقبل عليه الناس حتى دون التفكير بأبعاده. ولربما حجة البعض أنهم يضعون العلم لأنهم يُصلون لبلادهم، كمن يضع خريطة بلاده مثلا ويصلي. لكن، كنا نصلي لبلادنا، وقبلنا آباؤنا وأجدادنا ولكن بدون أن يضعوا علما أمامهم!

نحن مدعوون للصلاة للملوك والرؤساء، لكن دون أن نضع صورهم وشعاراتهم في كنائسنا، ونحن مدعوون لاحترام السلطات والقوانين، ولكن ليس بأن نُسوّق نظرياتهم القومية والشوفينية في قاعات العبادة وأثناء تعليم المؤمنين. هكذا كانت الكنيسة عبر التاريخ، وهكذا يجب أن تبقى بالتأكيد.

 

كالغري 28 آذار 2020