مرنمون متفرغون!

مِن بين عشرات العَودات بالكنيسة والخدمة المسيحية إلى عالم ومَنهجية الكتاب المقدس، والتي حرصتْ عليها الكنيسة الإنجيلية، كانت إعادة فتح المجال أمام جميع أعضاء الكنيسة للخدمة، كلّ حسب مقدراته والملَكَات التي أٌعطيتْ له مِن قِبل صاحب الخدمة.

لكنّ هذا المجال كمجالات أخرى عديدة، يُشبه سيفاً بحدين! فمِن ناحية أعاد فتح الباب للمشاركة، وحطَّم الحاجز الوهمي الذي نصبتْه الكنيسة عبر العصور بين ما يسمّونه الاكليروس والشعب. لكنه مِن ناحية أخرى فتح المجال في مرات كثيرة بلا رقيب ولا حَسِيب لأشخاص دخلاء على الخدمة، أو آخرين انتهازيين وسيمونيين، ولآخرين راحوا يستحدثون خدمات ومناصب ومواقع خدمية نادراً ما نسأل عن حقيقتِها. مِن بين هذه الخدمات المستحدثة والتي ما زلتُ أُسَإل نفسي عن جدواها وعن حقيقة الحاجة إليها، دون أنْ ألقى جواباً شافياً هي خدمة المرنم المتفرغ!

والمقصود بالمتفرغ، أنّ شخصاً صوته جميل، أو ما يُشبه الجميل، يترك عمله أو ما كان يَقتاتُ معيشته ومعيشة عائلته منه، ليكرّس نفسه لـ "خدمة الرب" كمرنم!

حسب علمي، هي المرة الأولى في تاريخ الكنيسة، التي يَظهر فيها خادم متفرغ للخدمة في الكنيسة تحت اسم أو خدمة "الترنيم"، وأقصد خدمة بلقب وتوظيف كامل. فهل سألتم أنفسكم حقاً عن أهمية وضرورة هذه الخدمة؟ وعن أسبابها وموجباتها؟ في الواقع كنتُ قد سألتُ نفسي هذا السؤال مراراً، وفيما يلي ثلاثة أسئلة على الأقل تُبلور الفكرة وحيرتها لدي:

الأول بينها يسأل عن هوية الذي يُفرغ المرنم، بمعنى مَن يدعوه أو إنْ شئتم مَن يوظفه؟ وإذا كنا نتحدث عن الكنيسة في الشرق الأوسط، فهذا السؤال يصبح أصعب جدا، فكل كنيسة بالكاد تستطيع أن تفرغ "توظف" خادما واحدا، والكنيسة المحظوظة لديها الامكانية لدعوة خادمين لخدمتها، فمن يدعو أولئك المرنمين ليتركوا أعمالهم، ويتكفل بمصروفٍ شهري لهم مع عائلاتهم؟ ثم هل تحتاج معظم كنائس الشرق الأوسط – من حيث الحجم المكاني والعددي – أن توظف لديها خادماً اختصاصه الترنيم؟ هل خدمات الترنيم في كنائسنا الصغيرة بمعظمها والمنتشرة بالمنطقة إلى موظفٍ كامل الدوام يُناط به الترنيم؟ ولقد ازدادتْ غرابة الأمر لدي عندما علِمتْ أنّ معظم أولئك لم يتمّ اعتمادهم كخدّام ترنيم متفرغين مِن قِبَل الكنيسة بشكل مباشر أو المؤسسة الكنسيّة التي نُسميها مجمعا أو سينودسا!

وهذا يقودنا بشكل مباشر إلى سؤال وليد النهاية السابقة: ماذا سيفعل هذا المرنم المتفرغ لهذه الخدمة خلال اليوم وخلال الأسبوع وخلال السنة؟ هل ستُناط به خدمة قيادة الترنيم بكل اجتماعات الكنيسة ولقاءاتها؟ ولكن ماذا لو كان هذا "المرنم" غير موهوب في القيادة الجمهورية؟ بل وماذا سنفعل بباقي الأشخاص في الكنيسة الذين لهم موهبة قيادة الاجتماعات، أو أولئك الذين يملكون أصواتا جميلة، ولكن حسبما يبدو "كأن" الروح القدس لم "يختارهم" للتفرغ كل حياتهم لهذه الخدمة؟

فعلاً ماذا سيفعل هذا الأخ الذي أعطى كل حياته، بمعنى كل يومياته لخدمة الترنيم؟

نفهم أنّ الراعي لديه الزيارات الرعوية، درس الكتاب، الوعظ، اجتماعات العمل وسواها من الأعمال التي تملأ وقته وغالبا ما يشعر بنقص في الوقت. أما هذا الخادم الجديد فماذا سيفعل؟

قال لي أحدهم: سيخدم في المؤتمرات والكنائس الأخرى.

وهذا في الواقع يأتي بنا إلى السؤال الثالث والأخير هنا: كيف سنستخدمه؟ بمعنى ما الطريقة أو الاجراءات التي سنتبعها لدعوته للترنيم في كنيستنا؟ هل سنخاطب راعي كنيسته؟ على أساس أنه عضو في كنيسة محلية، أو سنخاطبه هو شخصيا ومباشرة؟ ولكن أليس في هذا تدخل في شؤون كنيسة أخرى؟

أم أنه سيفتح مكتباً خاصاً أو مؤسسة خاصة تُعنى بالترنيم ويكون التعامل معه عن طريق هذا المكتب؟

في الواقع إنّ نقاشاً مثل هذا وإن كان يظهر كأنه تهكمي، ولكنني أطرحه بكل جدية، لأن هذه الأسئلة والمواقف هي التي دفعتْ وتدفع هذه الطبقة مِن "الخدام" الجدد في حياة كنيسة اليوم، إلى إهمال الانتماء الكنسي المحلي، لأنه مع الأيام يُشكّل لهم عائقاً أمام انطلاقتهم وشهرتهم. فبعيداً عن الكنيسة المحلية، يستطيع هذا "المرنم" أن يُحصّل دخلا أكبر بكثير بسبب التقدمات التي سيحصل عليها من خدمته مع الآخرين، ويستطيع أن يبقى دائما رفيق المنبر، على عكس الوضع في كنيسته المحلية التي غالبا ما تنظم دورا بين المرنمين وقادة الاجتماع.

وهذا في الواقع ما جعل كثيرا مِن أولئك المرنمين يندفعون لتفريغ أنفسهم، ووضع الكنيسة والمؤمنين تحت الأمر الواقع، وهو نفس السبب الذي دفعهم لتسويق أنفسهم كقادة تسبيح وقادة اجتماعات، وفجأة بدأنا نرى بعضهم وعاظا ومتكلمين وسنراهم بعد قليل رعاة كنائس!

حقيقة ما عيب أولئك الخدام الذين كتبوا أو لحنوا أو رنموا، وبعضهم عمل الأعمال الثلاثة معا، في الوقت الذي استمروا في العمل في مكاتبهم أو معاملهم أو سواها من الأعمال؟ بل إنْ شئتم فإننا اليوم نرنم ترانيما – معظمها إن لم يكن كلها - كتبها ولحنها وغناها خدام استمروا بأعمالهم العادية حتى اليوم، وبعضهم رقد وهو على هذه الحال!

وهذا يصل بنا إلى نقاش هام يتعلق بآلية ابتكار أو تبني خدمة لها خادمها المتخصص في الكنيسة اليوم، لأنني أخشى أن الظروف تجرف الكنيسة لقبول خدمة ما، أو أن الأمر الواقع الذي يبتكره البعض يفرض على الكنيسة ابتكارات خدمية لن تكون إلا أعباء على الكنيسة والمؤمنين في المستقبل.

حلب 23 آب 2013