عكاظ الانتهازية السورية

لمن لا يعرفون معنى "عكاظ" من جهلاء شباب هذا العصر: هو سوق كان للعرب في الفترة التي كانوا متحضِّرين فيها أكثر من الآن، أقصد "الجاهلية"!

انتهت كل التحضيرات وباشرت كل المحلات والبسطات والمهرة والنشيطون من الانتهازيين بعرض بضائعهم ومنتجاتهم ومسروقاتهم التي تتشابه جميعها من حيث أنها تتكون من عنصر الانتهازية، إلا أن طرق العرض والتطبيقات والتسويق وطرق وكمية تحصيل النتائج تعتبر مختلفة على اختلاف فنون كل انتهازي وشطارته! والواقع غرق السوق بعارضين منافسين مقارنة بالماضي، فبينما كانت الانتهازية تتمثل ببعض الموظفين الحكوميين الكبار والصغار وكثير من التجار، انضم إلى السوق اليوم كثير جدا من العموم الذين كانوا مادة للانتهازية لسنوات عديدة!

من طرف الحكومة،

كنا نتوقع أن يتضمن الدستور الجديد ملحقا يتحدث عن مرحلة انتقالية، أقل ما يتضمنه فقرة تُعنى بـ "مِن أين لك هذا"، لتدخلنا في مرحلة قطع الطريق على بعض الانتهازيين الذين استغلوا مناصبهم واستغلونا في السنين الماضية، لكن التوقع بقي حلما سخيفا في رؤوسنا.

ويوم تشكلت الحكومة الجديدة، كنا نتوقع حكومة طوارئ، حكومة حالة استثناء، ليس بسبب الأحداث المخيفة التي تعصف بنا وحسب، بل وأيضا بسبب كل الانتهازيين الذين يملأون الدوائر الرسمية: وزراء، مدراء عامون، موظفون، بوابون ... لكنها في النتيجة أتت حكومة ككل الحكومات، يطل علينا بعض وزرائها من وقت لآخر ليخبرونا عن خططهم وأفكارهم، وهم إما لا يرون ولا يسمعون ما يقوم به بعض الانتهازيين القريبين منهم، وربما في مكاتبهم، وربما هذا لسبب إعاقة ربانية، ولا اعتراض على خليقة رب العالمين، أو ربما لهم بسطة في سوق عكاظ هذا!

ومن طرف المعارضة والمنشقين على الحكومة

فإنك لتستغرب معظم الأسماء التي اشتهرت في صف قيادتها، ممن لم نسمع لهم اسما في عالم الشأن العام السياسي أو الاجتماعي، يتحولون شيئا فشيئا إلى أبطال قوميين، بينما الذين قبعوا في السجن قدار مخيفا من عمرهم، من أجل هموم الشأن العام والسياسة، بالكاد نسمع لهم صوتا!

ومن ناحية أخرى، أخيرا تعرفنا أسماء جديدة علينا، مثل مناف طلاس، الذي طلَّ علينا من خلال صور لم نرها من قبل، وهو يدخن السيكار في هذه الصور؟ فمن أين يأتي بثمن السيكار؟ أم أن رواتب ضباط الجيش اليوم صارت تؤهل أصحابها شراء سيكار من كوبا؟

سامحونا يا سادتي - يعني هل يُقارن سيكار بقصور وفيلات عناصر الجمارك، حتى أولئك الذين بلا رتبة؟!

وعالم المعارضة مليء كما يبدو بالانتهازيين الذين يعيشون على حساب - ما بعرف مين - في أنقرة واستنبول وباريس، حتى أننا نفكر أن نلتحق بالمعارضة وننتهز الموقف بشي شهرين في استنبول!

ولأن الساحة أصبحت متاحة للجميع، فقد حمل السلاح كل مَن لديه تار ويريد أن ينتهز الفرصة ليصفي حساباته مع أحد، وتوزيع المتفجرات على المناطق السكنية، صار "موضة" على ما يبدو، لأن انتهازيين وضيعين لا يأبهون بحياة الناس، يجب أن تمشي بضاعتهم! والأميين صارت لهم فرصة ليعلِّموا الناس دروسا في ...! والنضال الوطني والشعبي أصبح مطية انتهازية لكل راغب.

ومن غرائب الانتهازية في معرضها الدائم في المناطق السورية اليوم:

الغاز مثلا، وقد تحولت حالة فهم حالته معضلة عجيبة، فمؤسسة للدولة تصنّعه، ومؤسسة للدولة تعبئه وتسوقه، ولكن بقدرة قادر يصل إلينا بـ /2000-2500/ ليرة بدل /500/ ليرة، مع أن مستودعات التعبئة لا تبعد عن حيِّنا أكثر من خمسة كيلومترات، يعني "فركة كعب"؟!

والبنزين، صار فرصة عجيبة للانتهازيين من سائقي التكسي، الذين تحولت لديهم الأجرة التي تظهر على العداد مضروبة على الأقل بـ /2/، هذا إذا شغّل العداد بالأساس! ومحطات البنزين تلعب بسعر الليتر، وصار البنزين بحاجة إلى واسطة أيضا كما كان المازوت في الشتاء.

على سيرة المازوت، هذا أيضا أمره عجيب، فمؤسسة للدولة تصنّعه، وأخرى للدولة توزعه، ورافقته هذه الشتوية إما لجان شعبية أو لجان أمنية أو لجان وحده الله كان يعرف من هي، ومع هذا وصل للمستهلك بـ /30-35/ ليرة بدل /16/ ليرة؟!

وما دمنا عند الوقود والسيارات، فالانتهازية غلبت كل إشارات المرور، حتى تجد مَن يشتمك لأنك توقفت على إشارة مرور ما!

وما يزال سوق الانتهازية يضم الكثير،

خذ مثلا الأرصفة، فلم يكتف البعض بوضع "بسطة" للبيع، بل حولوها إلى ما يشبه الخيمة، وبعضهم بلط تحت الخيمة، وبعضهم رفع جدران حجرية وصارت البسطة غرفة أو بمعنى آخر دكان حجري! ومن غرائب مؤسسة الكهرباء والماء في سوريا، أنها تزود أي عقار – مسجل أو غير مسجل – بالماء والكهرباء، لتجد الدولة نفسها بعد قليل في ورطة تصنيف هذا الشكل من الأبنية، حيث يتحول التهريب والمخالف إلى حق مكتسب!

ومثلها الأبنية، التي بعضها ارتفع طابق أو طابقين بليال قليلة، وبعضها وُجد من العدم بأقل من أسبوع!

ولأن عكاظ الانتهازية هو عبارة عن موسم، لاحظ ماذا أتحفتنا فنونهم هذه الأيام

من الغريب العجيب أنه ما أن بدأت أزمة الكهرباء، مع تفاقم الأحداث في البلد، حتى امتلأت الأسواق بمولدات كهربائية من مختلف الحجوم والأصناف وطبعا من أسوأ الماركات، وبالرغم من هذا، كانت أسعارها أضعاف بمرات عديدة سعرها الذي كنا نشتريه منذ أشهر قليلة.

ثم فجأة رأينا السوق يغرق بكل أنواع وحجوم الشموع.

وبنفس المفاجأة، امتلأ السوق بأنواع السخانات الكهربائية للطبخ، بعد أقل من أسبوعين من بداية أزمة الغاز!

أليس كل هذا غريبا؟ كيف استطاع التجار استيراد كل هذه الاحتياجات بظرف أيام وأسابيع؟ أم أنهم تجار انتهازيون عرفوا من أصدقائهم الانتهازيين في الدولة – يعني موظفين - أن البلاد ستدخل في أزمة كذا، لتبدأ تجارتهم؟ أم لعلهم شركاء في صناعة أزمة الغاز والكهرباء والكاز وسواها حتى يبدأوا تجارة جديدة ستربحهم الملايين – وهذا حتمي - لأن كل الشعب مضطر للشراء؟

يوم استفاق "ضمير" عبدالحليم خدام – فجأة وبقدرة قادر - تحدثوا عن انتهازيته في استغلال السلطة، التي فاقت تصوراتنا نحن المواطنين العاديين، واليوم استفاق ضمير سفيرنا في العراق، وإذ بهم بدأوا يحدثونا عن متاجرته بالآثار! فهل هذا يعني أننا يجب أن ننتظر صحوة ضمير الموظفين والمؤيدين والمعارضين، حتى نغلق سوق عكاظ هذا؟ أم أن الانتهازية نوع من الجينات، يعني متل السمك إذا طلع من الماء يموت، ولكي لا يموت

فإن ضمير الانتهازي يصحو على شكل انتهازية أفضل من التي كان يسوِّقها!

وأنت وأنا، الـمُنتَهَزين والمحلوبين حتى الموت، ماذا يجب أن نقول؟ أعتقد أنه ليس لنا سوى أن نقول:

حرام اتركوه، أحسن من أن يبقى ضميره ميتا على حالة واحدة! وحسبي الله ونعم الوكيل في زمن عكاظ فاسد وشرير.

حلب 12 تموز 2012