كلمة خاصة في حفل تكريم

القس الدكتور ريتشارد هارت

 

أخي الحبيب

كنتُ أتمنّى أنْ أقولَ لكَ كلاماً أَجْـمَلَ ممّا سأقول، لكنَّكَ تَعلم أنّـي آتٍ مِنْ مكانٍ هربتْ مِنهُ كلُّ الكلماتِ الجميلة!

حضرة الحضور الكريم

كَرَمُكُم بالحضورِ اليوم، إنّـما هو إِكْرامٌ لِضَيْفِ حَفْلِنا ولِـمؤسّستِنا، واستماعُكُم لِـما نَقولُ تِباعا، اِمتيازٌ لِكلِّ مُتكلِّمٍ هنا، فَدائِما الإصغاءُ مُطوَّبٌ أَكثرَ مِنَ الكلام، فَشُكراً لكم.

عَرفتُ "هارتَنا" مُنذُ عَشْرَ سنين، عَنْ طريقِ مُناسباتٍ واحْتِكاكاتٍ مُـخْتلفة مُتعدّدة، أَكثَرُها تَواتراً وتَكراراً جَلساتُ العملِ للهيئةِ العامة واللجنةِ التنفيذية، وما أَدراكَ ما جَلساتُ العملِ هذه! حالاتٌ مِنَ الهدوءِ والسّلاسَةِ والضِّيافَةِ والتعاطي الحضاري، حتّى كأنّ بَعْضَنا يَكادُ يَنْسى أنّنا في جَلسَةِ عَمَل. أمّا نَـجمُ هذه الحالاتِ ومُولِّدُها والسَّاهرُ على استمرارِها، فكانَ "ديك هارت"، كانَ هذا أوّلَ وأَبْرزَ انْطباعٍ بَقِيَ عندي.

ولـم تَطُلِ الـمُدّة، حتّى عَرفتُ جانباً آخَرَ مِنْه، عندما أَتانا مُنْذُ أَرَبعِ سنوات، واضِعاً بَنْداً على جَدْوَلِ أَعْمَالِ جَلْسَتِنا السَّنوية، فَحْواهُ: وَضْعُ أَفضلَ طَريقةٍ لاختيارِ خَلَفٍ للمديرْ التنفيذي، ولدهشتي – أتكلَّمُ عن نفسي كأقلِّ تقدير - اقتراحُهُ أنْ يَلْتَحِقَ أَعضاءُ اللجنةِ التنفيذيةْ بدورةٍ تدريبية قِوامِها "اختيارُ الخَلَفْ". الأمرُ الذي رأيتُ فيه نُضجاً يُضافُ على نُضْجٍ أصيلٍ فيه، وإحساساً جميلاً بالآخرين، وأَرِيْـحيّةً في التَّعامُلِ مع ما لابُدَّ أنْ يكون.

عزيزي ريتشارد، لأسبابٍ عديدةٍ تَسْتَحقُّ التَّكريمَ أيُّها الصديق:

مِن هذه الأسباب - اسْتِشْراقُكَ بِكلِّ ما تَـحْمِلُ الكلمة مِنْ مَعانٍ، فالدَّهرُ الذي صَرَفْتَهُ مِنْ عُمْرِكَ هنا، وتَـحَوُّلُكَ إلى اللغةِ العربيةِ الصعبة، وإِصرارُكَ على عَربِيَّةِ البرنامج ومَوادِهِ، بَلْ سَعْيُكُ للتّحوّلِ مِن ترجمة هذه المواد إلى تألِيفِها بالعربية، بَلْ حتّى اِصْرارُكَ على العربية لغةَ النِّقاشِ والتّداوُلِ في جَلَساتِنا – والترجمة للأجانب - كُلُّه تَـحوُّلٌ للاستشراقِ لديكَ إلى حالةٍ حياتيةٍ يُوميّة، لا مُـجرّدَ اِغْراقٍ في بَـحْثٍ عِلميّ مَحدود، تُقْلِع بَعْدَهُ عمّا اعتدْتَ القِيامَ به.

ومِن هذه الأسباب، كُتْلَةُ المشاعرِ والأحاسيسِ فيكَ، والتي على ما يَبدو تُضاهي نِسبَةَ الماءِ في جِسْمِكَ، والتي كانت تَـأبَـى التَّقَوْقُعَ داخلَ كَيَانِكَ، فقد كانت أرضاً تَنْمو عليها مُعاشراتُكَ وعَلاقاتُكَ. فأنا، ولعلَّ كلَّ الذين عاشَرُوْكَ قليلاً أو كثيرا، قد تأثَّرْتُ بِلُطْفِكَ ودماثَتِكَ وهدوُئِكَ وطِيبَتِكَ ولِيُونَتِكَ وهوادَتِكَ! أمّا تَواضعُكَ، فهو دائماً قِصةٌ أُخرى. فمثلاً: مَن كانَ يَدري أو يَستخدمَ لكَ لَقَباً أو رُتْبَةً سِوى "ديك"؟ وإنْ عَرَفَ، فسَيكون هذا بعد وَقتٍ مِنْ مُعاشَرَةٍ يَغلِبُ عليها مَعرفَةُ أنَّكَ رَجلٌ: سَهلُ الشَّريعةِ سَهلُ الجانِبِ سَهلُ الـمَعْطِف لَـيِّـنُ الـمُهْتَصَرِ. هل عليَّ أنْ أَسْرِدَ قِصصاً أو أمثلة؟ لا أعرف إذا كان المقامُ يَفي بالغرض، لكن لَن أَنْسى "هارت" مُنتظِراً بالعبدلي وُصولَ باصٍ "ما" في وقتٍ "ما" مِنَ الصباح، آتٍ مِنْ حلب، فيه "منير"، لِيَنحي فَوقَهُ مُقبِّلاً، ثم مُلاطِفاً حتى نَصِلَ إلى الفندق!

أمّا حَـمْلُكَ أعباءَ هذا البَرنامِج الامتدادي، فأعتقدُ أنَّه سيكونُ مَفْخَرةً لكَ وللبَرنامْج على حدٍّ سواء. رُبْعُ قَرنٍ مِنْ تاريخِ الشرقِ الأوسط، وما أَدْراكَ ما يَـجري فـي هذا الشرق خلالَ رُبْعِ قرن! رُبْعُ قَرْنٍ سِرْتَ مع كُلّيةِ لاهوت، هي ليست كأيّ كُلّيةِ لاهوت، تَسعى لِـمَدِّ البَرنامج إلى هذا البَلد وذاك البَلد، فتارةً تَصْدِمُكَ السياسة وتَارةً تُوقِفُكَ الحدود، وأُخرى اللّهجة وأُخرى الـمُداخلات الكنسيّة وسواها مِنَ الصعوبات والضيقات والأزمات. أمّا إقناعُ الناسِ والرُّعاةِ وكُليات اللاهوت وسِواهم بِـما يُـمكنُ لامتدادِكَ أنْ يَـمُدَّهم مِنْ خَيرٍ وَبَركة، فَتِلكَ قِصّة أُخرى وَعِبءٌ آخر، كُنتَ خَيرَ حاملٍ له.

لا أعتقد أيُّها المحبوب أنّ البَرنامج: مُوظفين، ومُعظمُ المرشدين وكثيرٌ مِنَ الطلاب يُـمكنُ أنْ يَنْسُوكَ أو يَتجاهلوا حُضورَكَ، فَما تَركتَ بَينهم وفِيهم مِنْ مَنْهجيةٍ "ديكّية" في التعامل، قد انغَرَسَت فِيهم، وطبعاً أنا واحدٌ مِنْهم.

ولا أعتقد أنَّ البَرنامج كَمَوادٍ مَطبوعة أو أَفْكارٍ أو مَنهَجِيَّةِ تَفكيرٍ وعَمَل، يُـمكنُ أنْ تُكْمِلَ انْتِشَارَها بِدونِ خَيَالِكَ خَلْفَ كَلماتِ كلِّ صَفحةٍ مِنْ آلافِ الصَّفَحاتِ التي نَطبَعُها ونُوزِّعُها.

ولا أعتقد أنَّ كلَّ مَنْ نَالَ امتيازَ التعرف إليكَ سيَنْسى طُولَ قَامَتِكَ الـمَديد، وطُولَ قَامَتِكَ اللّاهوتِيّة، أو امتِدادَ أَحلامِكَ ونَشَاطِكَ، وسَعْيِكَ الدَّؤوب لِتَولِيدِ، أو دَعْمِ كائناتٍ مُؤسّساتيةٍ متنوعة، مِنْها مُؤسّسة تَـجمَعُ كُليّاتِ اللاهوت في الشرق الأوسط، الذي يَنْدَرُ اجتماعُهُ على أمرٍ سِوى الشرور، أو مُؤسسةٍ تَـجْمَعُ البَرامْج الامتداديةْ في العالم، أو مَدُّ رابطةِ آسيا اللاهوتيةْ بالـمّدَدِ والمعونة لِتَمتدَّ إلى آفاقٍ جديدةٍ رحبة. نعم، لا أَعتقدُ أنَّ مَن نَالَ امتيازَ مَعرفَتِكَ يُـمكنُهُ أنْ يَنْسى اتْساعَ لُــبِّــكَ الذي يَفوقُ امتدادَ ذِراعَيْكَ، الذي تَـخْتَصِرُهُ ابتسامَتِكَ اللطيفة المحتشمة.

أُقدِّرُ جداً انْسحابَكَ بِكلِّ حَصافةٍ ورزانةٍ وإيجابية، مِنْ حياةِ هذا الـمُراهق الذي أَشْرَفْتَ على تَربيتِهِ وتَنشِئَتِهِ خمساً وعشرينَ سنة، حتّى باتَ رجلاً بالغاً، قادراً على اختيارِ مَن يَشاء مِنْ مُدراءَ ومَسؤولينَ يُتابعونَ معه حياتَهُ وامتدادَهُ، لربما اليوم نحوَ الغرب أكثرَ ممّا كُنَّا نُفكّر نحو الشرق، لِسَببِ هِجرةٍ تَنْهَشُ وُجُودَنا نَـهْشاً.

أُقدِّرُ جداً استمرارَ رَغبَتِكَ بالبقاءِ هُنا في وَطنِكَ هذا، لِـخِدمةِ شَعبِنا الذي ما يَزالُ بأشدِّ الحاجةِ للمُخلِّصِ ثم لِلتَّعْلِيمِ والتَّثقيفِ اللاهوتي، كَما لِلتَّدَرُّبِ على خِدْمَةٍ تُنْجَـزُ بِهدوءٍ وتَفانٍ وإيجابية.

خِتاماً أقولُ لكَ: لا يُقدِّمُ العهد الجديد نَمَاذِجَ لِمؤمنينَ هم أساتذة في اللاهوت، أو مُدَراءَ تَنْفيذيين أو أَعضاءَ في جَمعيّاتٍ عمومية، لَكنَّني أَعتقدُ أنَّكَ كُنتَ نَمُوذجاً مَسيحيّا لائِقاً جداً.

لِتكن بَركةْ الرب مَعَكَ دائماً.

عمان الجمعة 31 تشرين الأول 2014