شهود إنجيل يوحنا

ملفت للإنتباه عدد المرات التي ترد فيها كلمة "شهد" ومشتقاتها مثل "marturew , marturia" في إنجيل يوحنا. لكن الملفت للإنتباه أيضا الغاية التي تبدو أنها كانت في ذهن الرسول يوحنا عندما كان يجمع شهوده من أجل الغاية الكبرى التي كان يعمل عليها!

استخدم يوحنا الكلمة ومشتقاتها في هذا الكتاب أقل من خمسين مرة بقليل، كل تلك المرات كانت مخصصة لتخدم غايته ما عدا مرتين:

الأولى "لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ" (2/25)، والمقصود أن يسوع لم يكن بحاجة لمن يخبره حقيقة الإنسان، كون خبايا قلبه معلومة لديه.

الثانية "أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟" (18/23)، والموقف جزء من محاكمة يسوع، كأنه يقول له "إن كنتُ قد تكلمتُ بشيء رديء فتكلم أو أشر لهذا الردئ.

إذا كما تقدم، كل الاستخدامات الأخرى أتت لتخدم غاية كان يرسم لها الرسول يوحنا، وهذه الغاية هي "الشهادة ليسوع"، بمعنى أنها تُخبر أو تدل أو تُبرهن شخصه وعمله. وعند دراسة ومحاولة تصنيف تلك الاستخدامات، يمكن أن يجد القارئ أنها تنتمي إلى أربع مجموعات.

المجموعة الأولى من الشهود:

في المجموعة الأولى من الشهود نجد أناسا متنوعين يشاركون بشكل أو بآخر بالشهادة والإخبار عن السيد المسيح، هم:

1-     أناس عاديون، ومنهم بشكل خاص المرأة السامرية.

كان الناس يتحدثون عنه أينما إلتقوا، وإثر كل حادثة رأوه فيها. ومنها حادثة إقامة ألعازر من الموت "وَكَانَ الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ (12/17). نعم كانوا يشهدون: هذا هو، هذا من أعاد ألعازر إلى الحياة.

لكن، من أولئك الناس من اختبر شخصيا تدخلا خاصا من المسيح، وتغييرا جذريا في حياتهم، من هذه الفئة نقرأ عن المرأة السامرية، التي كانت تعيش في الخطية، وتُحْجِم عن التواصل مع الناس لسبب حياتها غير اللائقة، لكن إثر حديثها مع السيد المسيح نجدها تشهد بكل قوة: "فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ" (4/39).

2-     يوحنا المعمدان:

الذي قيل عنه أنه أعظم نبي، ولا غلو إذا قلنا أنه كان خاتم الأنبياء قاطبة. ويوحنا هذا، لم يأت ذكره إلا وهو يشهد بشكل أو بآخر عن يسوع المخلص، ففي فاتحة إنجيل يوحنا وفي أول ذكر للمعمدان نقرأ عنه وعن رسالته: "هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ" و "لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ" (1/7 و8). ويوم جاء الناس يسألوه عن المعلم الجديد نقرأ أن "يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى قِائِلاً..." (1/15)، "وَهذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا..." (1/19). وتتابع النصوص الإشارة إلى يوحنا الذي تخصص بالحديث عنه (1/32 و34 و3/26 و28 و5/33).

3-     التلاميذ وخاصة يوحنا الحبيب:

فالتلاميذ عامة قال عنهم النص: "وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ" (15/27). لكن يوحنا الحبيب بشكل خاص، يشدد بقوة على دوره كشاهد للمسيح وشاهد على أعماله وشخصه وتفرده، وبالأخص موته وقيامته: "الَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَق..." (19/35)، "الَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَق، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ" (19/35). ويختم إنجيله بنفس التأكيد: "هذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهذَا وَكَتَبَ هذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ" (21/24).

 المجموعة الثانية من الشهود - الكتب:

تُعتبر هذه المجموعة مِن الشهود مِن منظور بشري الأقوى والأثبت، لأنها تتضمن مجموعة كبيرة من الأنبياء تنتمي لبضعة مئات من السنين! فالأبنياء لا يُمهد لهم بأنبياء مُرسَلين قبلهم، لأن الأنبياء مرسلون يأتون ليشهدوا لحقيقة كان قد شهد لها من أتى قبلهم. وهذا ما حصل في سلسلة الأنبياء من بدء الخليقة حتى يوحنا المعمدان، فالجميع كان يشهد ويتحدث بشكل أو بآخر، من قريب أو من بعيد، بشكل مباشر أو غير مباشر عن المخلص الآتي – يسوع المسيح.

ويوحنا الحبيب، عندما جمع شهوده ومَحْوَرَهُم حول شخص السيد المسيح، لم يُغْرِقنا بسيل من أقوال الأنبياء وشهاداتهم، بل اكتفى بقول مختصر أتى على لسان المخلص "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي" (5/39).

المجموعة الثالثة من الشهود:

والواقع هي المجموعة الأقوى والأثبت والأكثر تأثيرا، لأنها تضم أقانم الثالوث الأقدس.

1-     الابن المتجسد – يسوع المسيح:

يشهد الابن ويتحدث عن نفسه علانية وبوضوح "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا" (3/11 و32 و4/44 و7/7). وشهادته التي هي لإعلان الحق "... لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي" (18/37).

وعندما اتهموه أنه إنما يشهد لنفسه "... أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا" (8/13) كان حاضرا ليجيب:  "... وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَق، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ" (8/14)! وطبعا هذا الكلام متعلق بشكل كلي بشهادة الآب عنه.

2-     الآب يشهد أيضا:

لم يكن حدث المعمودية الوحيد الذي يَظهر فيه الآب والروح القدس مؤيدان وشاهدان للإبن المتجسد، بل هنا أيضا يُكمل يوحنا دائرة الشهود بشهادة الآب نفسه: "الآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ" (5/37). ويؤكد يسوع نفسه أهمية هذه الشهادة شرعا: "أَيْضًا فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَق. أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (8/17 و18).

وفي هذا السياق، وخاصة في أحاديث الأصحاح الخامس من إنجيل يوحنا، حيث تجتمع معظم الشهادات التي مر ذكرها، من المعمدان إلى الكتب إلى الآب وأعمال يسوع نفسه، ربما يلتبس نص عدد واحد هو 32، حيث يقول "الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَق". إذ يبدو من سياق هذا النص، كأن هذا الشاهد الآخر مجهول!

لكن متابعة سياق النص ككل، خاصة ما بين الأعداد 24-37 يُظهر أن الحديث هو عن الآب. فهو يبدأ الحديث عن إرسالية الآب ع24 ثم الآب الذي فيه حياة بذاته كما الابن تماما ع26، ثم الدينونة التي يكمن سلطانها بيد الآب وقد شارك الابن بها، وبالتالي تناسق مشيئتي الآب والابن ع27-30، لنصل إلى الشهادة. فالآب نفسه بدأنا نرى دوره في الإرسالية ثم الحياة ثم الدينونة والمشيئة، هذا الآب نفسه يشهد أيضا، وشهادته بالطبع ثابتة وصادقة ولا حاجة من بعدها لشهادة أخرى ع31 و32.

3-     الروح القدس:

بحسب يوحنا، فإن عمل الروح القدس في الشهادة للإبن كانت وما تزال وستبقى فعالة إلى عودة المسيح شخصيا "وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي" (15/26). حاضر الروح القدس في حياة الكنيسة وأولاد الله وفاعل من أجل غاية واحدة هي أن يشهد أن يسوع هو المسيح ابن الله مخلص العالم!

 المجموعة الرابعة من الشهود - أعماله:

هذا ما قاله عنه الآخرون، هذا ما قالت عنه النبوة، هذا ما قال عنه الله الآب والله الروح القدس، وهذا ما قالت وتقول عنه أعماله: "أَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي" (5/36)، وأيضا "أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي" (10/25).

كل أولئك يشهدون أنه قادر أن يعمل، يُغيّر، يُحيي ويُصلح علاقة الإنسان المتكدرة مع الله. فإن كان كل الكلام والتفصيل لا يفي بالغرض، ولا يشفي نقص معرفة ورغبة في الاستزادة، إذاً عليك بأعماله. اطلب منه أن يأتيك ويُحدثك ويُخبرك عن ذاته. وهو سيفعل هذا بشكل عجيب ومعجزي.

ليست العبرة بما تعتقد، المهم أن تسأله وتطلب حضوره وإظهار أعماله، وهو سيفعل.

كالغري 28 أيار 2019

  

#pastorajji