اتفاق واختلاف الكنائس الإنجيلية

 

هذه المقالة حزء من محاضرة لي كنت قد ألقيتُها في كنيستنا في حلب، ضمن "سلسلة معارف الكنيسة"، تحت عنوان "الكنائس الإنجيلية، تنوع وغِنى".

بماذا تتفق الكنائس الإنجيلية بعضها مع بعض؟

 

إن أبرز وأهم ما يمكن أن يكون قاسما مشتركا بين الكنائس الإنجيلية على تنوعها واختلافها، وهذا أقل ما يمكنني قوله في تلك القواسم المشتركة، هي:

 

أولا - العقائد المسيحية الكبرى:  

لا جدال في اتفاق الإنجيليين قاطبة وحتما في "العقائد المسيحية الكبرى"، تلك المتعلقة مثلا بالله، التجسد والولادة العذراوية، الفداء بما يتضمن حتما الصلب والموت والقيامة، عودة المسيح والدينونة الأخيرة. والتي يُعبِّر عنها قانون الرسل القديسين وقانون الإيمان النيقاوي – القسطنطيني، تعبيرا يصح فيه المثل العربي "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ"!

من هنا يكون ترويج "البعض" تصنيف الإنجيليين أو بعض فئاتهم بالبدع أو الهرطقة، أو بشكل أدق أنهم "شهود يهوه"، ترويج من جاهل، أو مُغرض لا يُعتدُّ به، ولا يلتفت إليه سوى مَن كان مِن درجة جهله وفساد غرضه وسوء مبتغاه.

ثانيا - سلطة الكتاب المقدّس:

إنه أبرز وأهم حجر تأسس عليه - وما يزال - الفكر الإنجيلي بكل متعلقاته وغاياته وتعاليمه.

هذا ما سبق وقرره الوحي المقدس على فم القديس بولس: "وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملا متأهبا لكل عمل صالح" (2تيموثاوس 3/15-17).

وهذا يعني بشكل آخر، أنّ الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد الذي نستقي منه الإيمان ومبادءه، وبالتالي لا يمكن أن يساويه أو يشاركه، ولو بِنِسَب قليلة أي كتاب آخر كتبه أيا كان من رجالات الكنيسة أو طقس أو عادة كنسية. وعليه فإن كل ما هو مخالف للكتاب المقدس وجب رفضه وعدم قبوله. (2بطرس 1/19-21).

ثالثا - الخلاص بالإيمان وليس بالأعمال:

إنه التعليم الذي يجعل خلاص الرب يسوع المسيح فريدا ومميزا وعجيبا، مقارنة مع أي تعليم أو فكر مَرَّ ويَمُرُّ على هذه الأرض. إنه التعليم الذي يُبكِّتُ أقسى وأعتى الخطاة، كما أشد الناس ابتعادا عن الخطية وإخلاصا لصوت ضمير صالح.

ومع هذا غرقت المسيحية لفترة طويلة في ظلمة "الخلاص بالأعمال". وقد كانت أشبه بمرض عضال ضرب كل جوانب الفكر والتعليم والحياة المسيحية. لكن ما لبث أن سأل المصلحون ومن سبقهم أنفسهم، كما نفعل نحن أيضا اليوم:

إذا كان الخلاص بالأعمال، فلماذا تجسد المسيح وما نفع موته على الصليب؟ وما معنى قيامته؟

إنْ كانت أعمالي وحسناتي تغفر خطاياي وتُوجِد لي مكانا قريبا من القدوس، فما معنى خطة الخلاص الإلهية؟

رابعا - كهنوت جميع المؤمنين:

في الوقت الذي يحدثنا الكتاب المقدس عن "كهنوت جميع المؤمنين"، فإننا لانجد في نصوص العهد الجديد كلها أي تعليم عن وجود كهنوت خاص، كالذي كان في العهد القديم. بمعنى ضرورة وجود طبقة محددة من الناس مفرزة لتقديم القرابين، ورفع الصلوات نيابة عن باقي الشعب.

يعلمنا الكتاب المقدس أن ذبيحة المسيح، التي قدمها، وهو الكاهن العظيم، بل الأعظم، كانت ذبيحة واحدة قُدِّمَتْ مرّة واحدة، ذات مفعول أزلي أبدي (عبرانيين 9/12و27)، لهذا ما بقيت هناك حاجة لذبيحة أخرى، وبالتالي ما بقي هناك حاجة لكهنوت ما.

خامسا - الإرسالية العظمى:

"إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر" (متى 28/19-20).

واليوم كما في السابق، يتمسك كل الإنجيليين بالرغم من كل أشكال التنوع والتلوين بتطبيق وتحقيق هذه الإرسالية حتى النهاية. فما نفع الكنيسة إن كانت تهمل أو تتغافل عن وصية من وصايا الرب؟ وكيف للكنيسة أن تقف أمام مخلصها وفاديها، عندما سيسألها عن رغبة الآب "الذي يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تيموثاوس 2/4)؟

بماذا تختلف الكنائس الإنجيلية؟

إننا نجد أنه من الطبيعي والمنطقي جدا أن تتمايز وتتنوع الكنائس للأسباب التالية على الأقل:

أولا - تاريخها وظروف نشأتها:

هذا ما تميزت به حتى كنائس القرن الأول. فزمن وطريقة تأسيس الكنيسة في إسبانيا مثلا، مختلف كليا عن باقي الكنائس في المناطق الأخرى. ولعل أحدنا يسأل عن هذا الاختلاف الذي نشير إليه، فنقول: يمكننا على الأقل ملاحظة أنه كان قد مر على تأسيس كنيسة أورشليم وإنطاكية وكنائس آسيا الصغرى، تركيا حاليا، سنوات عديدة، افرزت مجموعة خبرات جديدة، وعددا من الخدام والعمال الروحيين، وأزمات ومتاعب متنوعة، منها ما تم تجاوزه، ومنها ما استمر وربما تفاقم إلى ذلك الوقت. وهذا ما سنلاحظه في كل الكنائس عبر كل العصور حتى يومنا هذا.

ثانيا- سياسة إدارة الكنيسة:

لا يخفى على أحد، أن الكنيسة، وبالرغم من أنها بالتعريف الأولي والأبسط، هي جماعة المؤمنين الذين يُصلُّون معا. فهي تحتاج إلى تنظيم وإدارة، تماما ككل جماعة بشرية تنتظم معا.

لكننا بالعودة إلى نصوص العهد الجديد، مرجعنا الوحيد في شؤون الكنيسة وأمورها، فإننا لانجد تفصيلا أو تنظيرا يتعلق بتنظيم وإدارة الكنيسة، سوى ما يتحدث عن

الشمامسة: الذين كانت مسؤوليتهم تنظيم أمور المساعدات المادية، وسواها (أعمال6، وتيموثاوس الأولى3 وتيطس1)

الأساقفة: وهم الذين ذكروا في العهد الجديد باستخدام المترادفات: "أسقف، شيخ، قسيس، ناظر". كما تخبرنا النصوص التالية: (أع 20/17 و28، تي 1/5 و7).

راح الإنجيليون في غمرة بحثهم في أمور الكتاب المقدس وتعاليمه، يبحثون أيضا في شكل تنظيم وإدارة الكنيسة، فما وجدوا في الكتاب سوى القليل، وبالتالي فهمو أن الأمر مفتوح للإجتهاد والاستحسان الذي تجده كل جماعة من الجماعات، مهما صَغُرَت أو كبُرت.

لهذا تبع ويتبع الإنجيليون طرقا متنوعة في إدارة الكنيسة، إن في عدد الخدام وتنوعهم في الكنيسة الواحدة، أو في نوع الخدمة المعطاة لكل خادم، أو نوع من الخدام، أو في تحديد صاحب أو أصحاب القرار، بمعنى السلطة الإدارية والتنفيذية.

ثالثا- طُرق ووسائل العبادة:

هل على الكنيسة أن تُنظِّم طريقة أو طرقا محددة للعبادة تلتزم بها الكنائس في كل مكان وزمان، أم يُترك للكنائس حرية إبتكار الطرق والوسائل؟ هناك نقطتان تساعدنا على الجواب، هما:

  • ·       سكوت نصوص العهد الجديد عن هذا الأمر. لماذا لم يتحدث العهد الجديد عن هذا الأمر؟ هل تُرك الأمر لاستحسانات متنوعة؟ أم علينا أن نبحث أكثر في الكتاب؟ أم علينا تقليد نموذج العهد القديم في العبادة، كما فعلت الكنائس غير الإنجيلية؟
  • ·       تجربة التاريخ، لقد جرب المسيحيون عبر قرون عديدة جدا، وحتى اليوم بالنسبة لبعض الكنائس، لونا واحدا من العبادة، يخاطب نموذج العهد القديم، لكن هذه التجربة أفرغت العبادة من مضمونها ومن قوة عملها في حياة العابدين، وحولت اجتماعات الكنيسة إلى حالة من الروتين والتكرار المملين.

رأى الإنجيليون هذه الحالة، ورأوا ما قاله العهد الجديد وما لم يقله في هذا الخصوص، ورأوا أن الحل الأفضل يَكمُن في فتح الباب على مصراعيه في كل ما يتعلق بطرق ووسائل العبادة، دون التقيد بأي شرط أو قيد مسبق.

رابعا- تفسير وتطبيق بعض نصوص الكتاب المقدّس:

سَلَّم الإنجيليون، ومنذ البداية:

بأن الكتاب المقدس يحتوي نصوصا صعبة، عسيرة الفهم والتفسير.

وبأن العلوم ما تزال تتطور وتنمو وتزداد عمقا، وتزيد الإنسان معرفة، وبالتالي ما يزال هناك فرصة لتطور علمي يساعد المفسرين والباحثين على تسليط ضوء إضافي على تلك النصوص العسيرة.

وبأن الناس يختلفون بعضهم عن بعض، كونهم شخصيات مميزة جدا في خلقها وتكوينها.

وبأن للرب طرقه وأوقاته وأسبابه لاستخدام كتابه أو نص من نصوصه كدرس أو عبرة أو نبوة أو تحذير لمؤمن ما، أو لجماعة مسيحية ما.

خامسا - باختلاف المناطق التي تنتمي إليها الجماعات المسيحية:

وهنا عامل هام جدا، وهو واضح جدا في العهد الجديد. فمن روما عاصمة العالم آنذاك، إلى أثينا منافستها في سيادة العالم، إلى مدن أكثر هدوءا وإلتزاما كفيلبي وكولوسي، إلى اليهود الذين كانوا في فلسطين، واليهود الذين كانوا في الشتات، وحتى يهود الشتات، ما بين أولئك الذين كانوا في الاسكندرية، والذين تشتتوا في مختلف المناطق في العالم. كل هذه المناطق، إضافة إليها أنواع الفئات البشرية التي تسكنها، إضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة في كل منها. كل هذا يؤثر على طريق تفكير وحياة كل جماعة مسيحية من منطقة إلى أخرى، حتى ضمن البلد الواحد.

نعم نحن نختلف بعضنا عن بعض كجماعات مسيحية ملتزمة بالكتاب المقدس وتعاليمه كلها وبشكل حتمي. وما إصرارنا على هذا التنوع والاختلاف إلا:

  • ·       تسليم من قبلنا بمحدوديتنا كبشر في فهم بعضنا البعض، وفي فهم نصوص الكتاب المقدس.
  • ·       فتح الباب على مصراعيه أمام إشباع تنوع الشخصيات، واختلاف رغباتنا.
  • ·       احترام لشخصية الفرد، الذي بسبب هذه الفرادة، يفتش عما يريحه بين أنواع عديدة، ليستقر على واحدة.
  • ·       إطلاق لطاقات وإمكانيات الابتكار والتجديد، إن في طرق العبادة ووسائلها، أو تسليط ضوء جديد على نصوص الكتاب المقدس، وبالتالي التغيير والتبديل بما ظهر من نور جديد.تحديا لأي طقسية وروتين يمكن أن نقع نحن أنفسنا به.

لهذا تبقى كنائسنا جديدة متجددة، متغيرة، ملونة، قادرة على الحركة والنشاط الروحيين حتى في أسوأ الظروف.

حلب 25 حزيران 2010