عادات للغربلة

فئتان في مجتمعنا أستغرب استسلامهما لكثير من العادات والتقاليد التي بعضها لا فائدة منه والباقي منها يضر دون أن ينفع!

الفئة الأولى هي الشباب. ولكم أستغرب استسلام الشباب في مجتمعاتنا للعادات والتقاليد، خاصة متى كان الأمر يتعلق ببعض الحالات كالزواج والوفاة والمعمودية والنجاح وسواها من المواقف والظروف.

ترى الشاب منهم، في الأيام العادية، يتمرد هنا وهناك على أمور الحياة اليومية، كاسرا هذا القانون الاجتماعي وذاك الفرمان العائلي، حتى يصل به الزمن إلى حادثة "عائلية" ما، كالخطبة مثلا، فتجده عندئذ كالخروف المساق للذبح، هم يُنظّرون وهو يبتسم، هم ينظمون ويرتبون وهو يتابع ابتسامته البلهاء، كأن الإرادة قد سُحبت منه ورميت بعيدا!

أما الفئة الثانية فهم أولئك المسيحيون، أولئك الذين لا يفتأون يصرِّحون حتى تُصَّم آذاننا أن قانون حياتهم الكتاب المقدس، والحاكم بحياتهم وتصرفاتهم هو الرب المسيح. إلى أن يحين وقت واحدة من تلك الحالات التي ذكرتها، لتراه نسي أن تصرفاته تحكمها نصوص الكتاب المقدس – كما ادّعى دائما – وأن قراراته يستقيها من حياة الرب والمخلِّص – طبعا وأيضا كما ادعى دائما !

أما الموقف الكارثي بالنسبة إليّ فهو متى اجتمعت الفئاتان في شخص واحد!

أسأل كل الشباب الذين سيقرأون هذه المقالة، متمنيا انطلاق اجاباتهم من أنفسهم، ومن محاكمة يُجرونها في لحظة القراءة وليس ما كانوا قد تلقنوه حتى الثمالة من مجتمعهم، وانطبع في صحوتهم وغفوتهم مع "عيب"، "هيك العادة"، "بدك تبهدلنا"... وأسئلتي هنا أستحضر بها بعض النماذج فقط، مِن سيل مِن العادات التي ما تزال تخنقنا يوميا:

من قال أن الخطبة والزواج لا تتمان ولا يمكن أن تنجزان إلا بمقدار كذا من الذهب؟ في حين أن الراتب الشهري للعريس – يعني كل الراتب - لا يشتري خاتم "محبس" واحد عرضه 2 ميليمتر، وسماكته نصف ميليمتر؟ ثم الخاتم الثاني، ثم خاتم خاص بالطلبة ثم سلسلة للرقبة وربما أقراط وربما إسورة، طبعا هذا بالحد الأدنى أو ربما الحد الميت من الطلبات الذهبية!

من قال أن الخطبة والزواج من مسؤولية الشاب، بحيث ما تزال شابات كثيرات، إنْ لم نقل معظمهن، ينتظرن العريس الأمير الجالس على حصان أبيض، ولا يهم إن كان عقله يشبه ما يمتطيه! وغالبا سيكون أكبر منهن ما بين عشر إلى عشرين سنة فقط، وأيضا لا يهم؟

لماذا لا يقتنع الشباب "ذكور وإناث"، ويقنعون أهلهم ومن خلالهم المجتمع، أن هذا العصر عصر "الإيجارات" والبيوت المملوكة، حالة تسير نحو الندرة شيئا فشيئا، وأن أولئك "الغنوجين" الذين يشتري لهم البابا بيتا يكفي لعائلتين هم قلة في المجتمع الكبير، وأن فرص الذهاب إلى الخليج أو بلاد الواق واق، لا تصيب الكثيرين! حتى تختفي ولعلها تنتفي عُقد النقص هذه عند الشباب!

من قال أن تفاصيل العرس يجب أن تتضمن زهورا بمقدار ثمن براد وغسالة؟ وفستان عروس أجرته – ليس شراؤه – بثمن غرفة نوم فيها خزانة من ستة أبواب وطبقتين؟ وسهرة في مطعم أو نادي تكلفتها بثمن تجهيز غرفة معيشة كاملة؟

أتوقف لحظة لأقول: لا أقصد بكل ما سبق أن هذه أمور خاطئة أو منافية للإيمان، ما أقوله هو ضرورة التحرر من حالة تسليم أعمى لحالات لا يمكن الاستسلام لها بعد الآن بالنسبة لشرائح كثيرة وكبيرة من المجتمع.

من قال أن تكاليف إكمال الجنازة من ثياب وتابوت ومصاريف كنسية وأكل يجب أن تجعل أهل الميت تحت دين إلى يوم الدين؟ يوم كانت المواصلات شبه معدومة، كان تقديم الطعام جزءا من استقبال الضيوف الذين أتوا من أماكن بعيدة ولا يستطيعون العودة إلى مدنهم وقراهم. أما اليوم ففي نفس الوقت يأتي الجميع ويستطيع أن يغادر الجميع، فلماذا هذه التكاليف التي لا تقدم ولا تؤخر؟ وحتى نبقى عالقين تحت رحمة عادة لا معنى لها بعد اليوم، انتشر المعتقد "لقمة رحمة"، يعني تأكل وتستمطر الرحمات على المتوفى! والواقع الذي يرزح تحته كثير من أهل العزاء، أن الأمر مزدوج النتائج: فمن ناحية رحمة للميت، ومن ناحية قصاص وديون على عائلته! طبعا هذا ما عدا أن الأموات لا يحتاجون إلى من يصلي من أجلهم ليدخلهم الجنة أو يخرجهم منها، لأن تقرير مصائر الأموات تحدث في لحظة موافاتهم خالقهم.

من قال أنه على أقرباء المتوفى أن يزوروا قبره بشكل متواتر، إلى ما شاء القدير؟ ولماذا؟ وماذا تعني أن تذهب وتضع باقة من الزهور على قبره؟ أليس من الأجمل أن تزين بتلك الزهور غرفتك، أو تصرف ثمنها لأجل شخص فقير يمكنه أن يشبع جوعته بثمن زهور سترمى بعد أن تذبل، أو يسرقها شخص ليبيعها أو تأكلها بعض الغنمات العابرة؟ هل لا يمكن للشريك أو الابن وسواهم تذكر فقيدهم وذكر مناقبه إلا إذا ذهبوا ووقفوا عند قبره بضع دقائق أو ساعة من الزمن؟ ألسنا قريبين من عبادة الموتى أو ربما نحن فيها؟!

على أي أساس محكوم علينا أن نلبس هذا اللون لهذه المناسبة وذلك اللون لتلك المناسبة، والمدة محددة في قاموس المناسبات، المطبوع في عقل جدي وجدتي والمحفور على جبهة كل واحد منا، كأنه القدر الذي لا مفر منه؟!

لنحاول معالجة الأمر من موقف مسيحي وبسيط.

من الواضح وبلا نقاش أن كل ما سقته من أمثل لا مرجع أو ذكر له في الكتاب المقدس. ومن الواضح ثانيا أنها تمثل حالة من تراكم الممارسة الاجتماعية وأحيانا المباهاة الاجتماعية، ومن الواضح ثالثا أن لا قانونا وضعيا يلزمنا بها، فنخشى تعديلها. فما المانع من التخلي عن بعضها، وما المانع من تعديل بعض تفاصيلها؟ ما المانع من التحرر من عبادة الأجداد أحياءا ثم عبادتهم وطاعتهم أمواتا؟

وفي النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، لنسأل أنفسنا:

هل حقا لا يمكن أن يتم الاحتفال السعيد أو الحزين إلا بصرف كل ما جمعه المرء من مال، أو بالاستدانة حتى الاختناق؟

هل حقا لا يمكن أن يتم الاحتفال السعيد أو الحزين إلا بتطبيق بنود الاتفاقية العائلية والمجتمعية التي ما تزال كل الأطرف ملتزمة بها منذ ثلاثة أو اربعة أو خمسة أجيال؟ يعني من قبل اكتشاف البترول وتصادم الإلكترونات! وعليه لابد من مساهمة كل الاخوة والأعمام والأخوال والخالات والعمات وما تيسر من العائلة بحسب النحس القابع فوق رأس صاحب المناسبة!

نعم إن ما أفترضه هنا لا معنى له، لأن معظم من سيقرأون مخدرون اجتماعيا وفكريا وشخصيا، سيفرحون بما قرأوا، وسيقول الواحد لنفسه ولآخر متى التقى به: "هذا كلام عين العقل"، ثم سيخرج إلى تنفيذ ما طُلب منه بحسب العادات، بكل استسلام وغباء.

نعم إن ما أفترضه هنا عسير وفي بعض الحالات مستحيل، في مجتمع يقبض عليه "المجتمع" وتحبسه القبيلة. وإذا كان ردك عزيزي القارئ يوافق هذا السطر الأخير، فلا تضحك على نفسك بعد اليوم بتسريحة شعر متمردة، وجينز شكله غريب وموبايل يختلف عن الموجود بين ايدي الآخرين، وفيس بوك كأن صاحبه من هاواي، لأنك في الواقع سجين، متخلف وجبان. ثم "ريّح راسنا" من التبجحات الدينية والتفوقات الروحية التي تنتفخ فيها علينا، على أساس أنك المسيحي الذي يجسد الكتاب المقدس بحالة فريدة لا نظير لها في كنائس العالم.

والله وليّ التوفيق.

حلب أيار 2012