من مفكرة نازح

المشردون السوريون

 

منذ خرجتُ مِن حلب – ذلك السجن الكبير – وقد مضى على خروجي ثلاثة أسابيع - استطعتُ خلالها الذهاب إلى وادي النصارى وحمص ودمشق وبيروت. وَقعتْ خلالها عيناي على صُورٍ كثيرة جداً، ومشاهد عديدة كانت قد فَقدتْ ألفتَها عَيْنايَ لأشهر.

أمّا أعظم مشهد رافقني، وخاصة في لبنان - "النازحون" السوريون.

في الواقع كنتُ قد راقبتُ وعاصرتُ حركة مئات النازحين خلال سَنة حَبْسي في حلب، وكم دمعتْ عَيناي مِن مشهد رجل وامرأة وأربعة أطفال أكبرهم في السادسة أو الثامنة يحملون في أكياسٍ مِن النايلون ما تيسَّر لهم أخذه من بيتهم، يجلسون على حافة رصيف، يبكي صغيرهم صارخا من أجل الرضاعة، ولا ترضعه المرأة لربما خجلا مِن المارة، أو لِنَفاذ الحليب مِن ثديينها!

شاحنات صغيرة تكدس مجموعة من الأغراض المنزلية التي تُمثِّل بمعظمها أغراضا لا نملك مثلها في بيوتنا، يجلس فوقها نساء وأولاد، وأمّ أو أُمَّيْن تبكيان كل الطريق!

خلال تلك السنة، لم أُفتِّش الانترنيت عن صورٍ للنازحين، فكان يكفي تهديما وتحطيما لِمَا في داخلي، من تلك الصور الحية التي أقابلها في كل خروج وعودة إلى بيتي.

لست أدري، لربما اعتادت عينان مشهد النازحين في حلب، أو ربما تشرد الإنسان في مدينته أهون من ذلك عند الغرباء.

في الوادي، ليس من حديث سوى العبء الكبير الذي أحضره ذلك العدد الهائل من النازحين، واستياء من عاداتهم الغريبة.

في دمشق، في الكنيسة، ما أكثر الذين أتوا ليلقوا تحية حارة جدا، مُخبرين أنهم مِن حلب، ولسان حالهم حائر بين شكر الناس من أجل استقبالهم، وشعورهم بالثقل الذي يَشعرُه أهل المدينة الجديدة من تضخم عدد النازحين.

في لبنان وهنا الحديث والمشهد مختلف كليا.

على الحدود مئات المنتظرين، بعضهم يُسمح له بالخروج ثم بالدخول، وبعضهم الآخر يُعاد من حيث أتى بعد التشبع من حرارة الشمس بما يكفيه حرا ليومين أو ثلاثة، وخسارة كل المدّخر كأجرة للطريق المسدود.

على الطريق سيارات تنتظر، جماعات تجلس على جانب الطريق، خِيَم تظّنها للوهلة الأولى نفايات مرمية هناك تعبث بها الرياح.

في بيروت، نفس المشهد الذي رافقني سنتي في حلب، عائلات وأفراد يقفون في حيرة، أو يجلسون مُطأْطِئي الرأس، وأغراض بجانبهم ليست سوى بضعة أشياء لا قيمة مادية لها تذكر. ذلك النازح في حلب، غالبا ما بقي بين يديه طريقة واثنتين وثلاث طرق يتدبر نفسه بها، ولكن ماذا سيفعل هنا وقد انقطلعت به سبل المعونة؟ لَيرته لا تشتري شيئا هنا، وخبرته لا تؤهله لعمل ذا قيمة هنا، وغالبا لا قريب ولا صديق يُعتد به، فأين سينام؟

والمضيفون مُنقسمون في نوع ومقدار تعاطفهم، على هوى انقساماتهم السياسية، وهوى السياسة في لبنان، يَهبّ مِن جهات الأرض الأربعة، ولو وُجدتْ جهتان إضافيتان لَهَبّ منهما أيضا.

السوريون اليوم، يخلعون كل ألوان تنوعهم الديني والاثني والثقافي والجغرافي، ليبسوا ثوبا واحد بلون واحد هو "التشرد"! مشردون، وربما يتسارع العدد ليصل إلى النصف، فهل يُعقل أنّ التشرد والنزوح سيُمْسي حَالنا ولوننا وأقصى طموح يصلنا أو ربما نصل إليه؟

من أرض التشرد 28 آب 2013