دستور دون الطموحات

امتياز فريد يناله الجيل الذي يُعدَّل دستور بلاده على زمانه، لكنّها أيضاً مسؤولية كبيرة ومعقّدة لأنها تهيئ أرضية وطنية لأجيال لا يعرف أحد عددها إلى حين الاضطرار إلى تعديل جديد، أمّا إذا كانت البلاد تعبر بما تعبر به بلادنا اليوم، فيتحول كل الامتياز إلى مسؤولية يحار المرء في طريقة التعاطي معها وإنجازها بما يُرضي به صراخ ضميره الشخصي كمبتدإ وصولاً إلى صراخ الأسلحة!

واليوم جيلنا ينال هذه المسؤولية الأقرب إلى المستحيل، والفرصة لمن هم بعدنا ليحكموا على إنجازنا. وكأن هذا الجيل معوّل عليه أن يحمل أعباء لم يحملها السوريون منذ عشرات السنين.

انتهى العمل على صياغة الدستور الجديد، وقد كنّا نتوقع طرحه للنقاش العام لبضعة أسابيع، لتعود اللجنة الموكلة بصياغته إلى دراسة ما تم تداوله بين عامة الناس، وإذ بنا نفاجأ بطرحه للاستفتاء العام "من الباب للطاقة"! لماذا؟ لا نعرف.

على كل حال، ومن باب المسؤولية، فإننا نود التعبير عن عدم رضانا عن صياغة هذا الدستور في أمر جوهري وأساسي حتى العظم، وهو "المواطنة"، والتي كنّا كتبنا بخصوصها مقالتين. هذا التعليق أبنيه على نسخة طبعتها من موقع "سانا" على هذا الرابط (http://sana.sy/ara/2/2012/02/16/400634.htm) بتاريخ 16 شباط الجاري.

هل حقق مشروع الدستور الجديد تقدما وأظهر تطورا؟ والجواب ببساطة نعم، فمن الناحية السياسية حقق قفزة تعتبر كبيرة جدا قياسا إلى ما كان عليه الدستور الحالي وما كانت تعيشه البلاد من الناحية السياسية.

ومن ناحية أخرى، هل هناك ثغرات في مشروع الدستور الجديد هذا غير "المواطنة"؟ نعم وربما كثيرة، أقلها:

  • · الإشراف الضعيف لمجلس الشعب على مجلس الوزراء، ابتداء من حصر مهمته بمناقشة بيان الوزارة وليس إقراره كما ورد في المادة /75/.
  • · جواز الجمع بين الوزارة والنيابة بحسب المادة /87/.
  • · ضعف الفصل بين السلطات القضائية والتنفيذية والتي تظهر في ذروة الهرم القضائي أي مجلس القضاء الأعلى بحسب المادة /133/.
  • · الصلاحيات الكبيرة والعديدة والهائلة المعطاة لرئيس الجمهورية، بالرغم من وجود منصب رئيس الوزراء. فإذا كان للرئيس كل الصلاحيات التي يعرضها الدستور الجديد، فما دور رئيس الوزراء عندئذ؟ هل هو مدير عام؟ وإذا كان لابد من ترك كل تلك الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، فلماذا لا يتم إلغاء منصب رئيس الوزراء تخفيفا للأعباء وتشعب الصلاحيات؟ وهذه كلها متمثلة في المواد /97، 106، 114/.
  • · إضافة إلى الالتباسات القانونية التي يمكن أن تنتج عن إقرار قوانين ناتجة عن استفتاءات شعبية بدون المرور على المحكمة الدستورية بحسب المادتين /116 و 148/.

سأترك كل ما سبق وسواها لأتوقف عند أبرز وأهم نقطة يجب أن يتمحور حولها الدستور وهي "المواطنة". وإنني أستغرب موقف لجنة صياغة الدستور الجديد من موضوع المواطنة وتعريفها وتطبيقاتها، كما أستغرب الضبابية والتداخل التي تملأ كلماتهم بخصوصها.

ففي الوقت الذي نصل فيه لنقرأ: "المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" /مادة 33 بند 3/، فإن شعورنا لن يكون أكثر من الاستماع إلى أو قراءة دعاية، ذلك أن المادة /3 بند 1 و4/ قد سبقتها وقوضت كل مفهوم المواطنة، فالمواطنون غير متساوين في الحقوق والواجبات بسبب الدين، إن على مستوى مؤهلات رئيس الجمهورية أو على مستوى حياتهم اليومية الطبيعية "الأحوال الشخصية".

وبينما المواطنون متساوون كما رأينا وحقوقهم مصانة بحسب في المادة /15/ التي تؤكد أيضا على تكافؤ الفرص، تعود المادة /15/ نفسها لتحدثنا عن انتزاع الملكيات الخاصة على أساس قوانين وحده الله يعرف كيف سيتم تركيبها، ويضاف إليها انتقاص حقه في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية لأن /35/ عضوا من مجلس الشعب لم يوقعوا له بالموافقة بحسب المادة /35/، أو لأن دينه ليس الإسلام كما رأينا في المادة /3/.

السيد المشرع، السادة المواطنون

المواطنة بتعريف بسيط، هي ما ورد في المشروع الجديد والمادة /33 البند 3/ "المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة". فلماذا نحتاج أن نؤكد بخط عريض "دين الرئيس الإسلام"؟ ومِن أجل مَن أو مِن أجل ماذا توضع هذه العبارة؟

هل لإفهام المسيحيين وسواهم من غير المسلمين أن لا مكان لهم في "ولاية الأمر"؟ هم يعرفون أنهم لن يصلوا إلى هناك بالانتخابات - بكل بساطة.

هل لإفهام المسلمين أننا في دولة فيها غالبية سكانية من مواطنين يدينون بالإسلام؟ هم يفهمون، وبعضهم يزايد على هذا كثيرا.

هل لإفهام البلاد العربية أننا دولة مسلمة وأنهم ليسوا أكثر إسلاما منا؟ نحن نفضل أن نفهمهم أننا أكثر إخلاصا وولاءا لوطننا منهم.

المواطنون متساون في الحقوق والواجبات، وهذا يعني "دستوريا" أن كل المواطنين، أي مواطن، يجب أن يذهب إلى نفس المحكمة التي يذهب إليها المواطن الآخر، وليس في وطن واحد لكل مجموعة من المواطنين محكمة خاصة بهم، وكأننا في وطن يتألف من مجموعة أوطان!

المواطنون متساون في الحقوق والواجبات، ولهذا تحترم الدولة جميع الأديان، حسبما ورد في المادة /3 البند 3/، لكن ماذا يعني "على أن لا يخل ذلك بالنظام العام"؟ هل هذا يعني السماح رسميا بإقامة الشعائر الدينية لليزيديين والبهائيين وسواهم من الأديان، والسماح لهم بتسجيل ديانتهم في سجل النفوس "العثماني" الذي ما نزال نتمسك به؟ ومثل أولئك الذين يريدون أن يكونوا بلا دين؟ أم أن هذا "سيخل بالنظام العام"؟

إن نص هذا الدستور المطروح للاستفتاء اليوم، مع أنه يقفز بنا قفزة تحول سياسي كبيرة وبارزة، لكنه يعني أيضا وبكل بساطة أنني أوافق بإعطائه صوتي على التمييز بين المواطنين بشكل مجحف، وأنني أوافق أن أكون في وطني مواطن مِن درجة أدنى!

فهل هذا المطلوب؟

حلب 16 شباط 2012