حاجة الإرسالية

ترتبط المسيحية بكثيرٍ مِنْ مُشتقات الجذر "رسل" ارتباطاً وثيقاً، بالرّغم مِن جهل كثيرٍ من المسيحيين لقوَّة هذا المصطلح وشدة ارتباطه بمعتقدهم، كذلك هو بالرغم مِن تجاهل بعض الكنائس لهذا الارتباط الشديد.

فالمسيحية بالمعنى العملي "إرسالية" أي مهمة، أدواتها رسل المسيح وتلاميذه وأتباعه، الذين يحملون رسالة المسيح لجميع الناس في كل مكان، وهذه "الرسالة" هي الإنجيل بمعنى الخبر السعيد بالطريقة الإلهية لخلاص الجنس البشري من الخطية.

واليوم لشدة تباعد المسيحيين عن هذه المهمة "الإرسالية"، يحصل مِن وقت لآخر لغط كثير فيما يتعلق بالرسل المبشرين بخبر المسيح، ولكي تتضح الصورة، أتحدث هنا عن ماهية وطبيعة هذه الإرسالية وبالتالي الرسل حامليها وبالتالي أيضا نوع الرسالة التي يحملونها.

لابد أن ينتبه كل إنسان مهتم - وبالطبع كل مسيحي - إلى أن الإرسالية لها مقومات، مما يجعلها بحاجة إلى بعض المساعدات، ولا تحتاج بالوقت عينه إلى بعض ما نَظنُّه مقومات لابد منها.

لا تحتاج الإرسالية إلى سلطة كنسية:

تعلن إنطلاق "الإرسالية" بمعنى البدء بالمهمة، أو لترسل المرسلين، والسبب ببساطة أن الكتاب المقدس يخبرنا أن كل مسيحي هو رسول يحمل رسالة! فمادام الإنسان قد صار مسيحيا لأنه آمن أنَّ الرب يسوع المسيح قد مات وقام من أجله ومن أجل غفران خطاياه، باتت بين يديه "الرسالة"، وبالتالي صار "رسولا" أو مرسلا أوساعي بريد. بئس المسيحي الذي ينتظر مِن شخص - مهما كان مركزه أو دوره الكنسيّ – يأمره أو يطلب منه أن ينطلق مُرسَلاً، وبئس الكنيسة التي تعتبر الإرسال سلطة مقبوض عليها مِن قِبَل قادتها، لا يمكن لأحد سواهم أن يقرر ما يتعلق بها.

لا تحتاج الإرسالية إلى مؤسسات ومال:

لأن الكتاب المقدس لا يُعلِّمنا ما هو سائد الآن عن أشخاص يذهبون من بلد لآخر ليبثوا رسالة المسيح ويعيشون كليا مِن هذه "المهنة" ما دام في ذلك البلد مسيحيون. هذه الطريقة بحسب الكتاب المقدس للبلدان التي ليس فيها "رسل"، أما تلك المناطق مِن العالم التي يعيش فيها مسيحيون، فالمتوقع أنهم أنفسهم مرسلون لشعوبهم، لهذا لا يحتاجون إلى مؤسسات ترسلهم، أو تدفع لهم، او تتكفل بمعيشتهم، لأن كل منهم وهو في حياته اليومية العادية مرسل لمحيطه ورسول لشعبه.

لا تحتاج الإرسالية إلى جيش منظم:

يعتقد البعض أنَّ المسيحيين يجهزون جيشا عرمرما من المبشرين الذين سيجتاحون هذه المنطقة أو تلك، والواقع أن هذا خطأ كبير، وإنْ قام به المسيحيون فهم يشذُّون عن قاعدة الكتاب المقدس. لأنَّ عمل "الإرسالية" فردي تطوعي شخصي. وهو وإن قام به كل المسيحيين، فهو منظم من تلقاء نفسه، لأنه تحت إمرة شخص واحد هو روح الله، ومادته واحدة إلى الإنجيل المقدس، ونتائجه واحدة هي تغيير جذري في حياة الناس، في أخلاقهم وعلاقتهم مع الله.

تحتاج الإرسالية إلى الكنيسة:

وإن ظهر هذا كأنه يناقض ما قلتُه للتو، فإنني أؤكد أن الإرسالية تحتاج إلى الكنيسة التي تغذي قلوب وعقول المؤمنين بالغذاء الروحي المناسب، والتي تهيئ الأجواء الروحية التي يحتاجها أولاد الله. تحتاج الإرسالية إلى الكنيسة لأنها ستكون لهم المقياس والحامي والمصحح لتعاليمهم وعقائدهم، ومساعد لضمائرهم في السهر على نقائهم الروحي.

تحتاج الإرسالية إلى قلب مشتعل بمحبة المسيح:

لماذا لا تحتاج الإرسالية إلى ما ذكرناه سابقا؟ لأن وقودها المحرك هو قلب تلتهب مشاعره بمحبة المسيح والامتنان لما فعل لها على الصليب وبالقيامة. نعم يستطيع أي كان أن يأخذ نسخة من الإنجيل المقدس ويعطيه لأي كان، ولكن القلب الذي اختبر شخصيا العلاقة مع المخلص، والحياة التي تغيرت لأنها تقابلت معه، هي المحرك لعمل الإرسالية الناجحة. لهذا نجحت وتنجح وستبقى تنجح إرسالية يسوع المسيح في كل مكان وفي كل زمان.

تحتاج الإرسالية إلى رغبة بالمبادرة:

إنها حالةُ تَشبُّهٍ بالله نفسه، لأنَّ الله مبادر بطبيعته، وفي كل تعاملاته مع بني البشر، وفي الخلاص بشكل خاص. بادر الله بمحبته لنا بينما كنا لا نحبه ولانمجد شخصه، وبادر في الخلاص في إرسالة ابنه ليصنع خلاصاً كاملاً أبدياً مجانياً، ويبادر الروح القدس في تأنيب الناس ودفعهم للبحث عن خلاصهم. لهذا فإن أولئك الذي شعروا وفهموا مبادرة الله نحوهم، لا يستطيعون إلا أن يبادروا أولا.

هل نجلس وننتظر الناس يأتون إلينا يسألوننا عن إيماننا ومخلصنا؟ ممكن، ولكن قياسا لطبيعة الله والخلاص الإلهي هذا سلبي جداً، لهذا فإننا لا نستطيع أن نكون رسلا ننخرط بالإرسالية "المهمة" الإلهية في إيصال الإنجيل المقدس "الرسالة" إلى كل الناس، لعلَّهم يتقابلون مع المخلِّص ويتحوّلون إلى رسل بدورهم!

هل تعتقد أنَّ شيئا في الكون سيوقف الكنيسة عن عمل الإرسالية؟ ببساطة أقول كلا، لا يمكن. ليس فقط لأن الرب وَعَدَ أنه يبنيها وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. بل لأنَّ أدواتها كل المسيحيين، ورسالتها الإنجيل المقدس خبر الله السار لجيمع الناس، ونتيجة عملها تغيير حقيقي في حياة كل الناس.

حلب 10 تشرين2 2010