سوريا المقسمة قبل التقسيم

في الحرب السورية، الأصوات كثيرة تُنهض ضمائر الناس: لم نكن هكذا في سوريا! من أين أتانا كل هذا الانقسام؟ كل عمرنا نعيش لا أحد يعرف دين الآخر!

والواقع هذا الكلام غير صحيح جملة وتفصيلا، وغير واقعي بأكبر تفصيلاته كما بأصغرها.

فسوريا، الولايات العثمانية، حكمها العثمانيون لأنهم نافروا ألوان الناس، وسلطوا جماعة على جماعة، وميزوا جماعة على حساب الجماعات الأخرى.

حمل الفرنسيون الإرث الغريب. لا ريب أنهم حاولوا اجراء تعديلات، لكنهم لم ينجحوا، أو ربما لم يريدوا. وهكذا، بعد وقت قصير، سلموها للحكم المحلي: بلاد جميلة الجغرافيا، قبيحة التقسيم.

ولم يُتعب الحكم المحلي نفسه في إجراء أي تغيير ذا أهمية، بعثيا كان أو ما قبل البعثي.

بلاد بأكملها تعيش حالة من التقسيم الطائفي المذهبي الاثني تحتاط الأقسام بعضها ضد بعض بالخوف والكراهية والشكوك والعمالة للغرب أو للمخابرات أو لقوى خفية والعياذ بالله.

تعالوا لا نكذب على أنفسنا وبعضنا على البعض الآخر. ولنستذكر كل السنين التي سبقت فترة التسعينات. لماذا قبل التسعينات، لأن سحق تمرد الاخوان الأول، واستقرار وضع لبنان لصالح سوريا، أظهر عزم الدولة على تهشيم أسنان كل من يعترض على طريقتها.

قبل ذلك الوقت،

أي يزيدي كان يتجاسر أن يقول في المعمل الذي يشتغل به في حلب أنه يزيدي؟ من منهم تجرأ على طلب استعادة ديانته في سجل النفوس بعد أن بدلها موظفو السجل المدني إلى "مسلم"!

كم اسماعيليا صرف حياته في حلب أو دمشق وتجاسر على الإشارة إلى عبادته؟

لماذا أصر سكان وادي النصارى على اسم منطقتهم حتى بعد خمسين سنة من حركة عبدالناصر الخرقاء في تغيير الأسماء؟

لماذا بدل الأكراد أسماء البلدات بعديوم واحد من اخراجها من سلطة الدولة؟

هل سمعت قصص مئات المعلمات والمعلمين الآتين من مناطق العلويين والدروز ليعملوا في قرى حلب أو دير الزور أو دمشق، ومشاهداتهم الغريبة، والملاحظات المشينة التي كانوا يسمعونها ويعيشون تفاصيلها؟

هل سمعت قصص آلاف الطلاب الجامعيين الذين عايشوا حالات مشابهة بل وأكثر منها؟

هل كنت طالبا في مدرسة ابتدائية أو اعدادية أو ثانوية يغلب على طلابها مذهب معين او اثنية معينة!

كل الذين انضموا إلى الخدمة الإلزامية، عاصروا كمية هائلة من التمييز الديني والطائفي والاثني والمناطقي الذي هدم فيهم ما تبقى من فكرة مبهمة اسمها "تعايش".

كان هذا أكلنا وشربنا اليومي من أية فئة كنا، وبأي منطقة كنا بعيدا عن قوقعة "جماعتنا".

أما ما جرى بعد ال2000، فكان ظهور الأسلمة بشكل واضح في الشارع وأماكن العمل، مما جعل الناس تبني متاريس اضافية، واحتياطات حماية اضافية.

انتبه لو سمحت، معظمنا لم نكن سيئون، لكن كنا منفصلون، معظمنا لسنا أشرارا لكن كنا غارقون بالخوف من الآخر. ومع غياب أي مشروع للتغيير والتحسين، غلب الحال السائد واستقوى.

والذي أُخرِج وهو طفل من صفه لأنه من ديانة أخرى، وفي الصف استهزأ به طلاب دينه لأنه من مذهب آخر، كان حاضرا في الحرب لاخراج "الآخرين" من بيوتهم ووطنهم، وإن لزم الأمر من حياتهم!

 

 

كالغري 6 حزيران 2021