سفر الرؤيا والاختطاف

ندرسُ الكتاب المقدس عادة بطريقتين:

¬  واحدة نُفتش بواسطتها عمّا تعلمناه وأحببناه، لنجد كم تحدث عنه الكتاب وكم وَسَّعَ به، فنشعر بالرضى والهدوء أننا نتمسك بما استفاض الكتاب بالكلام عنه، مثلا:

أولئك الذين يعتقدون أن الخلاص بالأعمال، يبحثون في الكتاب عن كل ما له صلة ولو "شعرة معاوية"، ليبرهنوا أن الأعمال تأتي بالخلاص، وأولئك الذين يعتقدون بالحكم الألفي، يفتشون عن كل "ألف" أوردها الكتاب، ليجدوا فيه عشرات "الآلاف"! وهي طريقة خاطئة، عادة ما تصِل إلى نتائج خاطئة.

¬  والأخرى نفتش فيها باحثين عمّا يقوله الكتاب وبأية خانة يمكن أنْ نصنفه، تتضمن هذه الطريقة مساحة يُجيبُك بسببها الكتاب على هواه إذا ما ساءَلته عن أمر أو موضوع. مثلا:

كمّ لا بأس به مِن عادات الكنيسة هي ترتيبات كنسية وليست كتابية، لا تفتش لتجد لها مرجعا أو مستندا في الكتاب. وغالبا ليس كل ما ذكر عن الطيور يشير إلى حال سلبية وليس كل ما ذكر عن البحر يشير إلى العالم وشروره!

على المنوال عينه، يعتقد كثيرون أن سفر الرؤيا سفر نبوي يسرد كل ما يتعلق بما بعد الموت "الأخرويات"، وكل ما يتعلق بنهاية العالم والدينونة الآتية، بل إن البعض يراه سجلا يبدأ مع الأيام الأولى للكنيسة، وينتهي بانتهاء دينونة الله على بني البشر!

وهذا صحيح لكن جزئيا.

فسفر الرؤيا كتاب قاد الروح القدس يوحنا الحبيب لكتابته من أجل تشجيع الكنيسة الواقعة تحت الاضطهاد، ليؤكد لها أن الرب ممسك بزمام الأمور، وإنْ بَدا الأمر غير هذا أو ربما معاكس له.

هو ممسك بزمام الأمور حتى إلى النهاية، يوم يستخدم عدو النفوس آخر وكل ما يملك من قِوى، فدونه الفشل حتما. لهذا فإن سفر الرؤيا يتحدث عن "بعض الأمور الأخيرة، أي ما يتعلق بنهاية الزمان الحاضر، وبداية عهد جديد، ولا يتحدث عنها كلها!

مع الأسف الشديد، أنَّ البعض يعتبر بعض غوامض سفر الرؤيا مسلَّمات واضحة، والبعض الآخر يعتبرها مقياسا للإيمان أو لمقدار تمسك الآخر بالكتاب المقدس، مما يخلق تشويشا بين أولاد الله، وتباعدا بينهم لسبب موضوع حتى الوحي الإلهي لم يحسم به بشكل قاطع ونهائي.

من المواضيع التي يمكن وضعها في هذا السياق، موضوع "الاختطاف".

ولِمن لا يعرف المقصود بهذا المصطلح، أسرد هنا قول القديس بولس بالروح القدس في رسالته الأولى لأهل تسالونيكي: "15فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. 16لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. 17ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ. 18لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِهَذَا الْكَلاَمِ" (4/ 15-17).

إذاً، الاختطاف هو الرجاء المبارك الذي تنتظره الكنيسة يوم يعود الرب يسوع المسيح حسبما وعد، فيأخذ الكنيسة - كل الكنيسة - إليه صاعدا بها إلى محضر الله الآب.

والسؤال الذي أبغي الجواب عليه، محدود جدا هو: هل يتحدث سفر الرؤيا عن حدث الاختطاف؟

وللتأكيد أقول، ليس حديثي هنا عن زمن وطريقة حدوث الاختطاف، ولا عمّا يسبقه من أحدث أو ما يلحق به، وفي هذا كلام كثير، وبعضه متضارب، وكثير منه تخمينات مبنية على استنتاجات شخصية.

إذاً: هل يتحدث سفر الرؤيا عن حدث الاختطاف؟

°  إذا ما قرأتَ السفر باحثا عن كلمة "الاختطاف" فلن تجدها سوى مرة واحدة في (12/5) "فَوَلَدَتِ ابْناً ذَكَراً عَتِيداً أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ. وَ اخْتُطِفَ وَلَدُهَا إِلَى اللهِ وَإِلَى عَرْشِهِ". لكن الحديث هنا ليس عن اختطاف الكنيسة بمعنى مجموع المؤمنين، وهذا باجماع مفسري السفر على اختلافهم وتضارب آرائهم.

°  أما إذ قرأت السفر باحثا عن فكرة أو وصف أو تصوير أو تلميح لحدث الاختطاف فكذلك الأمر لن تجد أدنى تلميح للموضوع.

وهنا لابد أنْ نسأل: من أين أتى البعض بفكرة حديث السفر عن هذا الحدث؟ وعلى ماذا اعتمدوا؟ بمعنى ما هو الدليل؟

في الواقع إنَّ الذين يعتقدون بحديث السفر عن الاختطاف، يرونه في فجوة زمنية يفترضونها بين الأصحاحين الثالث والرابع! "3/21  مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ. 22 مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ». 4/1 بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإِذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ، وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ الَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوقٍ يَتَكَلَّمُ مَعِي قَائِلاً: «اصْعَدْ إِلَى هُنَا فَأُرِيَكَ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ هَذَا»".

والفكرة أن الأصحاح الثالث ينتهي بحديث الرب مع الكنيسة، ويبدأ الرابع بفتح باب السماء وقول الرب أنه سيخبر يوحنا "ما لابد أن يصير بعد هذا" والمقصود بعد الحديث مع الكنيسة، وبالتالي يستنتجون أن حديث الرب مع الكنيسة على الأرض انتهى وأتى وقت يبدأ دينونته على الأرض وسكانها، وبما أن الكنيسة محمية من الدينونة، فهذا يعني أن حدث الاختطاف قد تم!

طبعا هذا بحسب رأي مَن يرى هذا.

ولابد للقارئ أنْ ينتبه أنَّ الفكرة أتتْ أساسا مِن اعتقادٍ آخر لا أساس له في نصِّ الرؤيا ولا في أي مكان آخر في الكتاب المقدس، قِوامه أن نصوص سفر الرؤيا إنما هي تمثيل لحقبات التاريخ إلى انتهاء الزمان، فكل رسالة من رسائل الرب للكنائس السبع في الأصحاحين الثاني والثالث تمثل حقبة تاريخية تلي الواحدة الأخرى، حتى تنتهي بكنيسة لاودكية التي ترمز إلى آخر حقبة ستعيشها الكنيسة على الأرض، والتي ستُختَم بالاختطاف!

وهنا طبعا نقف حائرين أمام هذا الكلام الغريب متسائلين:

_       على أي أساس، وبأي مقياس تفسيري تم اعتبار رسالة كل كنيسة حقبة تاريخية من حقبات حياة الكنيسة؟

_       وعلى المنوال نفسه، من يحكم بمدة الحقبة التي ترمز لها كل كنيسة من كنائس الاصحاحين الثاني والثالث؟

_       بأي منطق تفسيري نحكم أن الاختطاف جرى في "الفجوة" المفترضة بين الأصحاحين الثالث والرابع؟

وإذا كان الاختطاف قد حدث بالفعل:

_       ماذا سنفعل بالذين سيحدثنا عنهم السفر في أكثر من مكان أنهم مؤمنون وأولاد الله؟

_       ماذا سنفعل بالذين سيحدثنا عنهم السفر أنهم سيؤمنون خلال الأحداث التي ستجري بعد الأصحاح الرابع؟ والكنيسة بحسب رأيهم قد اختُطِفَت وانتهى عهدها؟

الجواب الوحيد أن أولئك هم من اليهود، وسينالون فرصة ثانية للخلاص!

يا للعجب! كيف ينالون فرصة ثانية؟ وما كان عَيْبُ الفرصة الأولى؟ ما عيب فرصة "الكنيسة" الآن؟ أليس "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ"؟ (يوحنا 1/11و12).

أليست الكنيسة فرصة لليهود والأمم – الآن – على حد سواء؟ "إِنِّي مَدْيُونٌ لِلْيُونَانِيِّينَ وَالْبَرَابِرَةِ لِلْحُكَمَاءِ وَالْجُهَلاَءِ ... لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ" (رومية 1/ 14-16)

إنني أعتقد أن جواب كل هذه الأسئلة كامن في النظر إلى الموضوع على الشكل التالي:

{    نعم، نحن نؤمن كما يُحدِّثنا الكتاب، وليس بالضرورة في سفر الرؤيا، أن الرب يسوع المسيح سيأتي ثانية كما وعد ليأخذ الكنيسة – عروسه – إليه لتبقى معه في السماء إلى الأبد.

{    لا يتحدث سفر الرؤيا عن الاختطاف، وهذه ليست نقيصة! إنما الروح القدس الذي قاد يوحنا في الكتابة لم يجد سببا للحديث عن الموضوع. وهذا لا يُنقِص شيئا لا في تأكيد الكتاب المقدس بخصوص الاختطاف، ولا بسير أحداث الأيام الأخيرة.

{    لا توجد فرصة للخلاص سوى الآن، أي بين قيامة الرب ومجيئه الثاني. كما أنه لا توجد فرصة خاصة لهذا الشعب أو ذاك، إنها فرصة واحدة لكل الأمم والشعوب. "لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً" (1كو 12/ 13) "حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ، عَبْدٌ حُرٌّ، بَلِ الْمَسِيحُ الْكُلُّ وَفِي الْكُلِّ" (كو 3/11)

اخوتي أخواتي،

يقول الرسول بولس "لَكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ" وهذا يعني أنه يأتي وقت على الكنيسة التي هي كائن حي، تنمو وتكبر، وتصبح قادرة على مراجعة بعض آرائها التي سبق وتبنتها يوم كانت طفلة، لتعدلها بما يتناسب والنضج الذي حصلت عليه.

وهذا ينطبق بشكل خاص على بعض التفاسير القديمة التي وُضعت لسفر الرؤيا، والتي كانت نِتاج مرحلة بسيطة من المعارف العامة والكتابية على حد سواء. فمن غير المعقول أننا نتبنى رأيا كان قد وضعه شخص أقرب إلى "هرطوقي" في القرون الوسطى، ثم "نكشه" شخص كان منزعجاً من الكنيسة في القرن التاسع عشر، ليتحول لدينا اليوم إلى مُسلَّمٍ لا يُمسُّ!

إن الوحي المقدس الذي لم يحدد زمانا لحدوث الاختطاف، ولا تحديدا نهائيا للأحداث التي ستليه وتلك التي ستسبقه، حدد وبشدة حالة المؤمن والكنيسة في انتظار هذا الحدث السعيد.

فكيف هي حالك أثناء هذا الانتظار؟

«أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ».