لا راديكاليون ولا مصلحون

بداية أُصوِّب أمراً يَتعلَّق بمقالتي "راديكاليو الدكتور دياب".

لقد فُوجئت ببعض الذين قرأوا تلك المقالة واعتقدوا أنها تتضمن إساءة للدكتور دياب، أو كأنها إعلان حرب عليه! وهذا غير صحيح. فالقس الدكتور عيسى دياب بالنسبة لي وكذلك لعائلتي عزيز وله موقع خاص لدينا، خاصة أنه كان من مدرسينا في كلية اللاهوت المعمدانية العربية.

فما كتبتُه هناك إنَّما هو اعتراض على منهجية فكرية وتاريخية لا علاقة لها بشخص الكاتب أو الناقد، كما لا علاقة لها بالعلاقات الشخصية على الإطلاق، وها أنا أُكمل توضيحاً وتفصيلاً، فأرجو أنْ أوفَّق.

في تلك المقالة سألتُ، وهنا أُكرر السؤال: مَن مِقياس لمن؟ مَن جَعَلَ، وعلى أي أساس جُعِل فريق مقياس للآخر؟ إنني أعرف أنه هكذا فعلت كل الدراسات التاريخية عبر التاريخ الإنجيلي وحتى الآن، لكن هذا لا يجعلها من المُسلَّمات. إنَّ المُسلَّمات في التاريخ هي الوثيقة على أنواعها. وما دمنا نتحدث عن تصنيف أو تصوير أو إعادة تصوير حالة أو مجموعة حالات، فهذا لا يجعلها من المُسلَّمات.

إنَّ الحدث التاريخي الذي نحاول إعادة صياغته، ولا أقصد بإعادة الصياغة فقط تصوير ما حدث في القرن السادس عشر، بل محاول إعادة صياغته على أساس ما تكدَّس لدينا من دراسات تاريخية تناولته. إنَّ الحدث التاريخي الذي نحاول إعادة صياغته هو تلك الجماعات المسيحية التي ظهرت في القرنين الخامس والسادس عشر، ولن أعود إلى ما قبل هذا التاريخ لأسباب كثيرة لا مكان لها هنا الآن. وأقترح في عملية إعادة الصياغة ثلاثة مناحٍ أو اتجاهات، أعرضها على شكل ثلاثة أسئلة، أقدم لكل منها اجابة مختصرة.

السؤال الأول: مَن مقياس لمن؟

لدينا كما هو معلوم، وكما يوضح الكتاب الجديد الذي كان موضوع المقالة السابقة، مجموعات تمثلت بداية بالمعمدانيين أو إن شئتم الأنابابتست، وجماعة لوثر، وجماعة كالفن، وجماعة انكلترا. ترافقت هذه الجماعات بالظهور في فترة زمنية متزامنة تقريبا، مع بعض الفروقات الطفيفة، مع أننا نميل إلى الاعتقاد بأسبقية الأنابابتست بزمن ذي أهمية. ولأسباب عديدة لم تستطع تلك الجماعات أن تلتقي حول رأي واحد في بعض المسائل، وهو أمر لا نراه سلبيا ولا سيئا، فسارت كل منها في خطها الخاص، وهكذا فَعَلَ أتباعُها فيما بعد. وعليه نسأل: بأي حق وبأي منطق سأعتبر واحدة منها مقياساً للأخرى أو للباقي؟

هل سيل الدراسات التاريخية التي وصلتنا عبر كل القرون الماضية؟ أم اعتدادنا بالمبدأ الذي ننتمي إليه وبالخط "الإصلاحي" الذي أتينا منه؟

منفصلا عن الطريقتين السابقتين، أسأل: على أي أساس تُصنَّفُ اللوثرية والكالفينية كتيارٍ إصلاحي واحد أو متشابه؟ أين التشابه وأين التلاقي بينهما؟ ألم تكن طرق وأفكار كالفن وجماعته، ومِن بعدِهِ كل تيَّاره الإنجيلي "راديكاليا" قياساً للوثرية؟ بل حتى اليوم ألا تُعتَبر الكنائس التي اتبعت "الكالفينية" أو بشكل أدقّ "المشيخية" حالات راديكالية قياساً للكنائس اللوثرية مِن عدة مُنطلقات في اللاهوت والحياة الكنسية؟

وعلى المنوال عينه، ألا تكون الحالة الكالفينية – المشيخية هذه حالة شديدة الراديكالية مقارنة بالأسقفية؟ أيضاً ليس المقصود في تلك الفترة الأولى مِن ولادة تلك الإصلاحات، بل عبر كل العصور السابقة وإلى اليوم؟ وعليه نسأل:

هل تكون الإنكليكانية مقياساً والكالفينية تطرفاً؟ فلقد كَسَرَت ثوابت عدة لا تتخلّى عنها الإنكليكانية.

أم تكون الكالفينية مقياساً وعندها تكون الإنكليكانية حالة فيها شطط عن الإصلاح كما رآه كالفن، لأنها ما تزال تغازل الكاثوليكية ببعض النواحي، وتغازل الدولة من نواحٍ أخرى!

نعم، مَن مقياس لِمَن؟

بعكس ما دَرَجَت عليه كثير مِن "مُسلَّماتِ" سرد التاريخ الإنجيلي، أقول: إنَّ المعمدانيين أصلح لأن يكونوا مقياساً في هذا الأمر، ذلك أنهم كانوا أسبق مِن غيرهم، ولم يَصرفوا وقتاً ثميناً في نقاش حالات لا كنسيّة ولا كتابية كانت سائدة، ولم يخطئوا بربط الكنيسة بالدولة والمسيحية بالحكومات.

السؤال الثاني: هل نحن مُصلِحون؟

وأنا أقصد بـ "نحن" تلك الجماعات الإنجيلية الأولى. لقد ظهر الإصلاح في أوروبا وقَبْل أن تكون أميركا. وبالتالي فإن مواقف تلك الجماعات كانت من الناحية الدينية خاصة والسياسية عموما في مواجهة الكاثوليكية، فهل أصلحناها؟ ربما إذا سألنا هذا السؤال للوثرية، نراه ينطبق جزئياً ومؤقتاً عليها لأن لوثر نفسه اعتقد أنه سيفعل هذا، وبقي هكذا لوقت طويل. ولا ينطبق تقريبا على الكالفينية، وهو حتما لا ينطبق على المعمدانية، أمّا الأسقفية فلها قصة أخرى في أسباب صراعاتٍ مِن نوع آخر مع الكاثوليكية، فأين الإصلاح في هذا؟

أمّا إذا كان الإصلاح هنا أننّا كُنا السبب في إصلاح نظرة الناس للكنيسة والإيمان المسيحي، فهذا صحيح. فلقد أصلحنا فَهم الناس للتقوى ومعرفة الله، بعد أن كانت خَرِبة حتى النهاية.

وأمّا إذا كان الإصلاح صفة تلازمنا وتحمل معنى الحالة الشخصية والداخلية، فهذا صحيح، فنحن كنيسة – جماعة دائمة الإصلاح، بمعنى نفحص أنفسنا دئما، ونرمي ما تكلَّس أو اهترأ مِن مظاهر تقونا وحياتنا المسيحية لتبقى صورة المسيح فيها براقة لماعة جميلة.

لقد كان الإصلاح واحداً مِن انجازاتنا الأولى التي أتممناها بشكل جيد ومسؤول، فهل يجب أنْ تلتصق بنا هذه الصفة دائماً، وتتحول إلى الاسم أو اللون الذي يُظهرنا أمام الناس؟ نحن كنيسة، ولسنا إصلاحاً. نحن "كنيسة" هذا اسمنا وهذه صفتنا، ولا يمكن لأية صفة أخرى أنْ تُعبِّرَ عن كوننا "كنيسة". أما وقد ظهرت جماعات مختلفة - قديماً أو حديثاً - تحمل هذا اللقب دون أن تحياه، فمَيَّزْنا أنفسنا بأننا كنيسة معمدانية أو كنيسة إنجيلية.

السؤال الثالث: هل نحن راديكاليون؟

كم تفاجأت مِن معمدانيين كثيرين كأنهم يُسَرُّون بأن يُوصفوا بـ "الراديكالية"، بل تَرى بعضهم يُخبر الآخرين أنه كذلك. وهكذا، بفضل الدراسات التاريخية الموجهة، وجهل بعض المعمدانيين، صار تَرادفٌ "دائم" بين المعمدانية والراديكالية!

وهنا أسأل نفسي وأضع السؤال برسم القارئ: كيف يستوي هذا ولماذا؟ إذا كنّا نُمثِّل نموذج كنيسة العهد الجديد، ونعيشها حياتيّاً وفكرياً وعبادة، فكيف نكون مُتطرفين؟ فهل صورة الكنيسة في الإنجيل صورة دعوة متطرفة إذاً؟ أليست صورة الكنيسة المعروضة في العهد الجديد هي المقياس وكل ابتعاد عنها هو إمّا راديكالية أو تسيُّب وإهمال.

لهذا نحن لسنا راديكاليين، بل نحن صورة الكنيسة كما هي مرسومة في العهد الجديد، إنْ بالعقيدة التي نقوم عليه، أو التعاليم التي نُعلِّمها أو بالممارسة والعبادة والحياة المسيحية التي نحياها يوماً فيوم، ولسنا مُغالين أو متطرفين في هذا، بل نسعى كل الجهد لنكون دائما وفق ما يُعلِنه العهد الجديد وما نتعلَّمه مِن خبرة الكنيسة عبر العصور. وسنكون عادلين،

فلن نقول: إنَّنا مقياس فَلْيَقِس الآخرون أنفسهم علينا،

بل سنقول: لِتَقِسِ الجماعات المسيحية نفسها على نموذج العهد الجديد، وبعدئذ لِتُصنِّف نفسها أين تكون بالنسبة لتلك الصورة.

إنني ومن خلال مقالاتي السابقة "إصلاح الإصلاح" بجزأيها، "راديكاليو الدكتور دياب" وهذه، أقصد إثارة السؤال التالي:

هل نحن – الإنجيليون – ملزمون في مناقشاتنا، تقاربنا، تباعدنا، نظرتنا لليوم أو للغد، هل نحن ملزمون أن تقوم هذه كلُّها على ما حدث في القرن السادس عشر؟ أو أي حدث إنجيلي آخر جَرَى منذ أربعماية أو ثلاثماية أو حتى مائة عام خَلَت؟!

هل حقاً لا نستطيع أنْ نقرأ "إنجيليتنا" قراءة تستخدم مفردات تلك المرحلة، لكنَّها تُؤلِّف جُملاً مُقتبسة من المرحلة التي نعيش؟

هل حقاً لا نستطيع إعادة صياغة واحد مِنْ مُقرَّرات "بيانات" الإيمان القديمة العريقة صياغة تأخذ بعين الاعتبار خبرة الكنيسة الإنجيلية عبر القرون الماضية عالمياً، والقرنين الماضيين شرق أوسطياً؟

لم لا؟!

حلب 21 كانون الأول 2009