الكنيسة بين خمسة فكوك

كُلُّنا يُتابع أَحداثَ تونس ومصر. نُتابع بِقَلقٍ ما يَجري وما سيجري بعد هذا، ونُتابع بالصلاةِ والدُّعاء مِنْ أجل الناس والمتألمين والحائرين والخاسرين، وبالأخص مِنْ أجل الكنيسة هناك.

وفي سياق المتابعات المرْهِقة لَفَتَني شَخصٌ يَقرأُونَ معه الوضعَ في مِصر والقوى المشاركة في الانتفاضة ضد الحكومة، ولدى سُؤَالِهِ عن دَورِ الكنيسةِ في "الثورة" في مصر بحسبِ رأيه، قال الضَّيفُ: إنَّ الكنيسةَ كاللأزهر مؤسسةٌ تابِعَةٌ للسلطة.

أَصابني الذُّهُولُ مِنْ هذا "المفكِّر" العربي المصري وقراءته للأحداث ولمَواقف الناس والمؤسسات، وبالأخص بَعض الفعاليّات دَائِمَةِ الوجودِ كالكنيسة.

وَذَهَلَ فِكري عنِ الأحداث الملْتَهِبة على شاشة التلفاز، وغَرِقتُ في حَالِ الكنيسة المسكينة عَبرَ القرون السابقة، وحالِها في هذه السنين الخمسين الأخيرة، والتي يُصنِّفُها العربُ على أنَّها سني اليقظة القومية والوطنية والتآخي والتعايش وكل هذه المصطلحات الطنانة جداً.

كم هي مسكينة الكنيسة في البلاد العربية؟!

فإذا كانتْ مُرتاحةً في علاقَتِها مع الحكومة ومَنْ هُم في مَنْصبٍ، قالوا: الكنيسة "تَبَعْ" الحكومة، وإذا وُجِدَ للحكومةِ مُعارضة سياسية، قالتْ هذه المعارضةُ: إنَّها أداةُ بِيَدِ الحكومة، أو مؤسسةٌ تُحرِّكُها كيفما تشاء، أو أنَّها أداةُ الحكومة لِتَرهِيبِ المسيحيين وإحجامهم عنْ اتّخاذِ مواقف سياسية معارضة.

وإذا شَمَّتِ الحكومة ولو حتى رائِحة تَأْييدٍ أو مُوافقةٍ على بعض تحرُّكات المعارضة، سارَعتِ الحكومة لاتِّهامِ الكنيسة بتأييدِ المعارضة، أو ربَّما هي التي شكَّلَتْها، وليس غريباً أنَّها تُموِّلُها. وسترى المسؤولين يُحاصِرُونها بِقَراراتٍ وتَصرُّفات ومواقف تُضيِّق الخنّاق عليها حتى تَكاد تَختنق، ولا تَعرف ماذا تفعل.

وإذا تَقَلْقَلتِ الأحوال، وحَدَثتْ تَغيُّرات في الساحة الإقليمية والدولية، سارعوا باتِّهَام الكنيسة بالتعاون مع الصهيونية العالمية وتأييد الإمبريالية الأميركية، وعليه يَبْدأونَ بِتَفْسير سَفَرِ فُلان منها على أنَّه تَحضِير لخطةٍ خَطيرةٍ، ومَقالةُ فُلان أنَّها غَمْزٌ مكشوفٌ لصالح الإمبريالية، وقِراءاتٌ معينة مِنَ الكتاب المقدس ما هي إلاّ رسالة سرّية مكشوفة لدى الأذكياء مِنْ بعضِ مَنْ هم بالسلطة أو بالمعارضة.

وإذا لم يُوجَدْ لا هذا ولا ذاك، ونُقل عن فلان مِنَ الكنيسة – كما نُقل عن ذلك الأسقف بالقاهرة – قِيلَ ما هذا التصريح إلاّ حَلَقة مِنْ سلسلة طويلةٍ في معاداة الإسلام وخطة سريّة لِتَقويضه والقضاء عليه. وهنا عادةً ما أسأل نفسي كم هم أغبياء أصحاب هذا الاستنتاج؟ كيف لعشرة ملايين أنْ يُقوِّضُوا إيمانَ سبعين مليون؟ أليس غريباً؟ لماذا؟ هل إيمانُهم معلَّقٌ بطائرةٍ ورقية؟

والواقع، إذا لم يكن هناك حكومة غير مرضية للبعض، وبالتالي لم يكن هناك معارضة، ولم يلاحظ أحدٌ تعاوناً من الكنيسة مع قوى عالمية شريرة، ولا تصريحات أو تحركات ضد الإسلام، سترى هذا الشخص الذي دفعني لكتابة هذه المقالة وسواها مِن المتفوِّهين والمثقَّفين والمحلِّلين "بامتياز" سيتكلمون عن تقصير الكنيسة ودورها السلبي بأي مجهول يمكن أنْ يُلصِقُوه بها.

وهكذا كيفما تَوجَّهتِ الكنيسة وَجَدتْ نفسَها في مواجهة فَكٍّ مِنْ فُكوكِ هذه الكمَّاشةِ الغبيَّة والمتعبة، كما كانت في الماضي وما تزال تُصارع ألاَّ يُطبق إثنان منها عليها فيُعرقِلانِ عَمَلَها ودَورها الذي خُلِقَتْ مِن أجلِه، والرسالة التي وَضَعَها في عُنقها ربُّ البريّة.

غريبٌ جداً أنَّ معظم المتفوِّهينَ والمثقَّفين والمحلِّلين والسياسيين العرب لم يَفهموا حتَّى الآن مُنذ نشأوا هنا حيث كانت الكنيسة، أنَّ الكنيسة – أية كنيسة:

لا برنامجَ سياسي لها، بمعنى المنهجية السياسية

ولا حزب سياسي لديها، ولا هي مؤيدة أو معارضة لأيّ حزب سياسي، إلاَّ ما خالف منها القِيَم الإنسانية، أو عارض الكتاب المقدس

وأنَّها غير مؤيّدة للحكومة – أية حكومة – لكنَّها غير معارضة، لأنَّ لا برنامج سياسي لديها.

فماذا تفعل الكنيسة إذاً؟ وما هو دورها؟

إنَّها تُصلِّي – كما يُعلِّمها الكتاب المقدس - مِن أجل مَنْ أَوْلاهُمُ الله أَمْرَ الناس، ومِنْ أجل الذين لا يُعجبهم طَقْمُ الحكَّام القائم، حتَّى يُنِيلَ ربُّ الحكمة والفهم الفريقين وسِواهم ما يَحتاجونه في صِراعهم السياسي وفي بناء المجتمع.

وتُعلِّمُ الناس، المحبة والغفران والتعاطف والتآخي والتسامح والتعاون.

وتَحضُّ الناس والمجتمع – وطبعاً الحكَّام كما المعارضين - على قِيمٍ أخلاقية اجتماعية واقتصادية وسياسية لابُدَّ مِنها لقيام مجتمعٍ سليم، تقُودُه مجموعة قادة سلماء. وعليه، تُوَبِّخُ - أيضاً - الناس والمجتمع متّى انحرفوا عن تلك القِيَم.

هكذا كانت، وهكذا ستبقى أمينة لِمَا أُقِيمتْ مِنْ أجلِهِ، ثابتة المقاصد مهما تزايدتِ الفكوك مِن حولها!

حلب 3 شباط 2011

 

Write a comment

Comments: 0