الكنيسة والمؤسسة المسيحية والحركة

هناك لَغْطٌ كبيرٌ اليوم بين كثيرين، مِنْ هواة علم اللاهوت وهواة الكلام الكنسي وهواة "الأحاديث الروحية" فيما يَخُصّ الكنيسة والمؤسسات المسيحية والحركة،

بين ما يُميّزُ الكنيسة عن الحركات الروحية على اختلافِها والمؤسسات المسيحية على تَنوّعها،

بين ما يَجعَلُ الكنيسةَ كنيسةً، وبين ما لا يُعطي الحركة أو المؤسسة حقَّ العملِ الكنسيّ ولا حتى التسمية.

ولقد تَضَافَرَ أكثرُ مِنْ عاملٍ على نُشوءِ هذا اللّغطِ والخَلْطِ، منها:

×   إهمالُ بعض الكنائس العمل التعليمي، والتَّعَلُّم اللاهوتي،

×   وبالتالي نقص المنهجيّة اللاهوتيّة والفكريّة والحياتيّة للكنيسة ككيان وكأفراد.

×   نشاطُ بعض المؤسسات الإرسالية والجمعيات المسيحية ونجاحها، وتَحَوُّل بعض أو كلّ دورها، بِقَصْد منها أو بدون قصد، إلى دور الكنيسة، مع أنّها لم تكن كنيسة وما تزال كذلك.

×   الصدمة "النَّقْزَة" التي أصابت الكنائس مِنَ الحركاتِ الكاريزماتية وما أَنْتَجَتْ مِنْ كنائسَ وحركات. وما جَعَلَ تلك الصدمة قويّة أقرب إلى "نقزة" تحتاج إلى "طاسة الرعبة"، أنَّ كثيراً مِنَ الكنائس شَعَرتْ بها مُتأخّرة قياساً لِبَدءِ عَمَلِها!

الكنيسة كيانٌ روحي مُنَظَّم، لا يَرقى إلى درجةِ المؤسسات الإدارية، ولا يَدنو مِنَ التجمعاتِ الهُلامِيَّة الشكل. لها رسالةٌ وهدف، تحقّقهما عن طريق مجوعة نشاطات مُنظَّمة ومُرتَّبة، تتكوَّن هذه النشاطات مِنْ خليطٍ قِوامُه الرئيسي ما هو روحي، وَبِنِسَبٍ أقلّ ممّا هو اجتماعي وثقافي وفكري ...

عَمَلُ الكنيسةِ الأوّل هو إِيصالُ بِشارةُ يسوع المسيح المُخلِّص لجميع الناس،

ومِنْ ثمّ تَعْلِيم الذين يَقبَلُون البشارة المبادئ الأوليّة للإيمان والحياة المسيحيّة، وأَهمُّها الانضمامُ إلى الكنيسة.

ومِنْ ثمّ دُخُولهم بعملية التَّعْلِيم التي تَستَمِرُّ معهم كلَّ عُمرِهم عن قواعد الإيمان وأساساته، والحياة المسيحية الحقيقية.

والمساعدة على تَحوّل كلّ هذا إلى مَنْهَجِ حياةٍ للمؤمِنِ الفرد والجماعة، يَنْشُرُ رائِحةَ المسيح الذَّكيَّة بين الناس، مِمّا يُساعدُ المجتَمَع على التَّأثُّرِ إيجاباً بهذه الحياة المسيحية المُميَّزة.

*       *       *

أمّا المؤسّسة المسيحيّة، فهي كيان إداريّ مُنظَّم. هي مؤسّسة، أو منظَّمة، أو هيكل ما، نَشَأَ لِيُحَقِّقَ عملاً محدداً يُعِين الكنيسة على تحقيق رسالتِها وهدفها بواحدةٍ مِن نشاطاتها الروحية. لقد عَمِلَت بعضُ هذه المؤسسات عملاً مُميزاً وفريداً عبر التاريخ في مساعدة الكنيسة على تحقيق ما تعيش من أجله، وبَعضُها بدأ صحيحاً وَنَمَا على هواه، فما عُدْنا نعرف هل هو كنيسة أمْ مؤسسة أمْ حركة أمْ الجميع معاً؟!

فما معنى أنْ يكون هدفُ المؤسسة الكرازة، فتُرسِلُ كارزين مِن "عِندها"، ولا نَعرفُ ماذا سَيَحلُّ بالمكروزين، إلاّ الفكرة النظرية أنّ مآلهم إلى الكنائس المحلية، وإذْ بهذه المؤسسة تضيف إلى عملها الكرازي عمل التلمذة!

عجيب، كيف تأخذ مؤسسةٌ روحية واحداً مِن الأعمال الأساسية للكنيسة؟ وعلى أيِّ أساسٍ ستتلمِذُهم؟ ولِمَن؟ وماذا سيَحلُّ بهم فيما بعد؟

ولماذا التعجب والاستغراب؟ فالجواب بسيط تُعطيك إيّاه المؤسّسات تلك بالشَّكل العمليِّ التالي:

ستعودُ وتُرسلُ كارزين مِن أولئك المكروزين المُتَلْمَذِينَ في مهام لها؟

هل حقاً تَعترفُ هذه المؤسسات المسيحية بما نُسمِّيه "الكنيسة"؟ وهل لإدراتها والعاملين فيها والمتطوعين للعمل معها اعتراف وخضوع للكنيسة فعلاً؟

واليوم، أصبح "اعتياديا"، وما أعجبه من اعتيادي! أنْ تلتقي بشابٍ مفعم بالحيوية والحماس، تسأله مِن أيِّ كنيسة أتيت؟ فيجيب ليس من كنيسة محددة بالضبط! ولأية كنيسة تنتمي الآن وتخدم؟ فيجيب، ولكن طبعا باحترام: ليس لكنيسة محددة، أنا أخدم المسيح وأكرز، أُواظِبُ بعضّ المرَّات على تلك الكنيسة، ومراتٍ على تلك، ولكن ليس واحدة بالتحديد!

ولربما أصبحنا بحاجة أنْ نسأل: ما هي الكنيسة؟ وأيّة كنيسة موجودة الآن، بَدَلَ أنْ نسأل مَنْ هم أولئك الأشخاص وتلك المؤسسات.

*       *       *

أمّا الحركة، فهي موجة فكرية أو روحية بمعنى اختبار، أو رغبة لدى مجموعة، تنتشر بين جموع بعض أو كلِّ أعضاءِ الكنائس، ربما تكون هذه الاختبارات أو الرغبات مقبولة أو مرفوضة، معتدلة أو متطرفة، عادية أو فريدة مميزة، غايتها ضخُّ حيوية جديدة في جماعة المؤمنين، ومآلُها إلى الانتهاء لِتَحَقُّقِ غايتِها، أو لِفَشلِها في تحقيق القبول لدى الأكثرية.

إنَّ تجارب الكنيسة عبر التاريخ يَغْلبُ عليه الفشلُ في التّعامل مع الحركات، لسبب اعتياد الكنيسة على ما تفعله وتقوله وتتحرّك به على مرِّ السنين، ولشدَّةِ حماس المحرِّكين للحركات.

لقد كانت الحركات الروحية عبر التاريخ أكثرَ احتراماً للكنيسةِ وما تَقومُ عليه ممّا هو الآن! لسبب ضَعْفِ مَفهوم الكنيسة في نَظَرِ المؤمنين، والّذي أَنْتَجَهُ تَضافُرُ إهمالِ الكنيسة وتَراخِيها، وتَعَسُّفُ تَعامل المؤسسات المسيحية مع الكنيسة!

اليوم، ما أَيْسَرَ أنْ تلتقي بجماعاتٍ تحرّكوا بسبب فكرةٍ أو اختبارٍ أو معرفة روحية جديدة، يُصنِّفُونَ أَنفسَهُم "كَنيسةً"! وتَسألُ: ما يُمَيِّزَكُم عن الكنائس الأُخرى؟ وتراهم يَستغربونَ سؤالَكَ، إنّها ببساطةٍ تلك الخبرةُ التي حَصَلوا عليها، وَلَسوفَ تَجِدُ مَنْ يُؤجِّجُ هذا الشعور، ويُعمِّقُ هذا الاعتقاد، حتى لَتَرى أنَّه قد سَادَ لدى كثيرين أنَّ الإختبارَ الفُلانّي هو مِيّزة تَقومُ عليها الكنيسة، وتَجْمَعُ جماعاتٍ مِنَ المؤمنين، وأنَّ الموسيقى الفلانيّة أو حركة الأيدي أو الأقدام أو نوع هزَّة الرأس إنّما تُشيرُ إلى كنيسة معينة! أو هي مَبْدأ كنسي روحي لا غِنى عنه!

 

اخوتي المتحرِّكُون بِسببِ الحركات، أو أموالِ المؤسّسات، ليستِ الكنيسة في هذه، ولا في تلك!

فإذا كنتم في هذه فقط أو تلك وحسب، فأنتم لَستُم في الكنيسة، وخَسَارتُكم كبيرة، لأنَّ خلاص الربِّ يسوع المسيح كانَ مِنْ أجلِ جَسَدِهِ الذي هو الكنيسة، والذي يَظْهرُ في هذا العالم على شَكْلِ الكنيسة المحلية.

 

حلب 28 شباط 2009