طالب اللاهوت

بين الرغبة والدعوة

مَن هو طالب اللاهوت حقاً، وما هي الصفات التي يجب أن يتمتع بها؟

سؤال كثيرا ما يتكرر على غير صعيد، ومن غير شخص. وأنا أذكر أن هذا السؤال وملحقاته، أقصد الأسئلة التي وُلِدَت منه، أو التي كانت سببا لوجوده، كثيراً ما كان مثار جدالات لا تنتهي في كلية اللاهوت يوم كنت أدرس فيها:

هل فلان فعلا طالب لاهوت؟

هل يليق بالكلية أن تستقبل فلانا كطالب لاهوت؟

ألم يروا أنه لا يملك من المؤهلات ما يجعله طالب لاهوت؟

وما تزال هذه الأسئلة تتكرر أمامي، وتُعاد وتُتلى عليَّ من وقت لآخر، ربما لسبب خدمتي في اللاهوت بالامتداد، أو لسبب "موضة" دراسة اللاهوت التي تنتشر أكثر فأكثر!

واليوم سألت نفسي مرة أخرى: فعلا من هو طالب اللاهوت؟ أو بمعنى آخر ما الصفات التي يجب أن تتوافر في الشخص الذي يريد أن يدرس لاهوت؟ ولدى محاولتي التفكير بإجابة هذا السؤال، فاجأتني ندرة ما قرأت عن هذا الموضوع، وتذكرت أنه نادرا ما وقعت بين يدي مقالة تتحدث عن مؤهلات وصفات طالبي علم اللاهوت بمنظور هذا العصر.

على كل حال، أرى أن هناك نوعان من طلاب اللاهوت، لابد أن نميّز بينهما قبل البحث في مؤهلات الطالب.

طالب بلا دعوة للخدمة:

هناك شخص – أشخاص - يدفعه الفضول أو حب المعرفة وزيادة الإطلاع على الإنخراط في الدراسة اللاهوتية. هو شخص لا يدَّعي الدعوة الإلهية للخدمة، ولا هو طامح بخدمة خاصة في الكنيسة من الخدمات التي تحتم الدراسة اللاهوتية كالرعاية والتعليم مثلا. بل يوسع مداركه ومعارفه، أو لديه خدمة معينة في الكنيسة ويرغب بزيادة المعرفة، أو يهيء نفسه، لعل الكنيسة تطلب منه خدمة ما في يوم من الأيام. وهذا ليس خاطئ بكل الصور التي ذكرتها وسواها.

ومن هنا يظهر النقص لدينا في معرفة الفرق بين مدرسة الكتاب وكلية اللاهوت، ويتجلى هذاالنقص بعدم وجود هذين الشكلين من المؤسسات التعليمية. لابل يزيد عليه خلط بعض المؤسسات بين النوعين في بعض الحالات في منطقتنا! فتقف حائراً: هل أنت أمام مدرسة للكتاب المقدس أو كلية لاهوت؟ فيلتبس الأمر على الطالب كما على الكنيسة!

ولو أن الفرق ظاهر في أذهان الناس في شكل ومضمون المؤسسة التعليمية، لرأينا معظم الملتحقين في كليات اللاهوت أو ما يشبه كليات اللاهوت، سيلتحقون بمدرسة الكتاب المقدس. وفي كلامي هذا لا أقلل من قيمة مدرسة الكتاب، بل أعبّر عن اعتقاد خبرته، مفاده أنّ كثيرا من الدارسين لا يرغبون التخصص اللاهوتي، بمقدار ما يرغبون في المعرفة وزيادة الإطلاع.

 

طالب بدعوة للخدمة:

هو طالب يرى نفسه وكذلك ترى كنيسته أن لديه دعوة من الله للخدمة وإعطاء حياته وما يتعلق بها لعمل الخدمة بكل ما تحمل هذه الخدمة من التكريس والتخصص والتفرغ لها. لهذا يحتاج إلى تأهيل خاص له شقين: الأول تأهيل عملي يحصِّله بشكل رئيس في كنيسته، والثاني تأهيل لاهوتي وعلميّ يحصِّله بشكل رئيس في كلية اللاهوت. وللشقان قلت "بشكل رئيس" لأن الجزء الباقي من هذا "الرئيس" يحصله في المكان الآخر، فلا يأخذ كل اللاهوت في الكلية، لأن جزءا منه وهو الجانب التطبيقي والحياتي يراه في الكنيسة، وكذلك التأهيل العملي، سيبقى منه جزء ولو صغير سيكمله في الكلية.

في الواقع، إذا كنا سنتحدث عن أية مؤهلات أو صفات يجب أن تتوفر في طالب اللاهوت، فيجب أن نتوجه بتفكيرنا بالأكثر من نحو الطالب الذي يدرس بناء على دعوة للخدمة. وهذا لا يعني أن الطالب بلا دعوة معفي منها بالمطلق، طبعا لا، خاصة تلك المؤهلات ذات الجانب الأخلاقي والحياتي، كما سنرى تباعا.

إذاً، نعود إلى سؤالنا الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة: ما هي المؤهلات أو الصفات التي يجب أن تتوافر في طالب اللاهوت؟ وعلى أي مرتكزات سنعتمد عندما سنرشح شخصا لدراسة اللاهوت، أو عندما سنلوم فلانا أنه "طالب" لاهوت؟

أولا- حياة كنيسة مديدة متواصلة:

وهذا يعني أنه "مسيحي" طبعا، أو "مؤمن" طبعا، كلٌّ يحبذ تسمية، لكن التسمية ليست بيت القصيد، بل المواظبة الكنسية. إنه شخص لا يفتر ولا يقصِّر في مواظبته والتزامه. وهذا أبسط منطق مرتبط في دراسة اللاهوت، لأن هذه الدراسة بكل ما فيها هي من أجل الكنيسة، فإذا كانت الكنيسة "حالة ما" في حياته، فكيف سيفهم ثم سيعيش ويطبق دراسته في الكنيسة ومن أجلها؟

ثانيا- التزام أدبي أخلاقي مميز:

إنه أقل ما يمكن أن يُطلب في طالب اللاهوت، لأنه سيكون خادما للمسيح، أي ممثلا عنه. خادما للكنيسة، أي عاملا على تهيئة حاجاتها وغذائها الروحي. أباً للبعض وأخاً للبعض وابناً للبعض الآخر، أي مقياسا ونموذجا للجميع.

ولعل البعض يرى في هذا زيادة أو اجحافا بحق هذا الطالب – الخادم، وأنا أقول لا، لأن الكتاب المقدس لا يشير إلى خدام المسيح بأقل من هذه القِيَم. فالخادم، وقبلا الطالب يوم يذهب ليتهيأ للخدمة، هو يتهيأ ليكون ممثلا عن المسيح بيننا، ولعلنا نحن الإنجيليين لا نحبذ هذا المصطلح كثيرا، ولكنها الحقيقة من ناحية وقوف الطلاب فيما بعد كخدام أمام شعب الرب كنموذج ومثال لهم. ومن ناحية أخرى هو خادم المسيح، وخادم بيته – الكنيسة – كيف تتوقعون شكل ومضمون خدام هذا الملك القدوس؟ لماذا نتوقع أن من يخدمون الرؤوساء والملوك يجب أن يكونوا أكثر تميزا من أشخاص آخرين يخدمون أية شخصيات أخرى أو فنادق أو مطاعم الدرجة الأولى؟ ليس فقط في لباسهم، بل وأيضا في علمهم ولباقتهم وشخصياتهم؟

القضية منطلقها المخدوم وليس الخادم! لننظر من نخدم وبيت من نخدم، ولنشكل طلاب اللاهوت وخدام الإنجيل على هذا المقياس وليس العكس.

ثالثا- دعوة واضحة مؤيَّدة:

لماذا يلتحق الطالب بكلية اللاهوت؟ هذا سؤال في منتهى الأهمية. إنها ليس كلية من كليات الجامعة العادية، يلتحق بها الطالب لأنه أنهى الثانوية العامة، وعلاماته توافقت مع متطلبات هذه الكلية أو تلك، على الإطلاق!

فاختراع كلية اللاهوت أتى من أجل تهيئة خدام لكنيسة المسيح بالدرجة الأولى. وهذا يعني أنها لا تصنع دعوة للخدمة، ولا تُخرِّج موظفين للصناعات الغذائية أو المعدنية أو سواها. إنها معين للكنيسة على تحضير أشخاص جدد للتكرس بأفضل الأشكال لخدمة السيد.

إن طالب اللاهوت يدرس المادة تلو الأخرى، وينهي السنة تلو الأخرى، ونصب عينيه هدية يضعها بين يدي السيد وهي ذاته ومعارفه الكثيرة التي حصلها بسبب دراسة اللاهوت.

إن معرفة هذه الحقيقة يفسر، بل ويجعلنا غير قلقين عندما نرى طلابا يتركون كلية اللاهوت، أو لا ينخرطون في الخدمة متى انهوا دراستهم. والسبب: ليس لديهم دعوة للخدمة.

لكن، لو أنه فهم هذا منذ البداية، وعرف الفرق بين مدرسة الكتاب وكلية اللاهوت، لوفر على نفسه بضع سنوات من الدرس بلا طائل، وكثير من المال، ولَوجد هدفه أو أهدافه في الحياة بشكل أسرع وأنجع.

رابعا- نجاح علمي:

وأضيف عليه نجاحا حياتيا أيضا. ليست كلية اللاهوت ومن بعدها الخدمة لأشخاص حاولوا الدراسة والنجاح ففشلوا أول مرة وثاني مرة وثالث مرة فما بقي أمامهم سوى الجيش أو القسوسية! ليست كلية اللاهوت ومن بعدها الخدمة لأشخاص جربوا مهنة صيانة الكمبيوتر أو الأجهزة الكهربائية ولم ينجحوا، ثم جربوا النجارة ولم ينجحوا، ثم عملوا على تكسي بالأجرة، وهكذا لم يبق أمامهم من احتمالات إلا الجيش أو القسوسية!

إن هذا معيب جدا. معيب بحق الكنيسة والخدمة وكلية اللاهوت ومدرسيها، وبالأخص معيب بحق إلهنا، الذي يستحق أن نعطيه الأفضل وليس الأسوأ، الباكورة وليس الفضالة، الأميز وليس ما هو أقل من القليل.

ليس هذا وحسب، بل هو مأساوي بحق الطالب نفسه. فمن قال إن دراسة اللاهوت عملية سهلة يسيرة؟ من قال إنها أسهل من الثانوية العامة أو حتى أسهل من الإعدادية المدرسية؟ فترى البعض يدفعون مَن لم يستطع الوصول إلى الثانوية للإلتحاق بكلية اللاهوت، لأنه سيصيب النجاح حتما؟!

خامسا- استعداد للخدمة:

عندما سمى الكتاب المقدس عمل القادة في الكنيسة "خدمة"، وعندما حافظت الكنيسة على مر العصور على التسمية نفسها "خدمة"، لم يكن هذا نوع من فذلكة ما، أو تظاهر بالتواضع أبدا، فعمل ممثلي الرب في الكنيسة هو الخدمة. بالرغم من أن الكنيسة في بعض مراحل حياتها حولت هذا العمل إلى تسيد، ومارس بعض الخدام عمل السادة والآمرين والناهين في حياتها وشؤون أفرادها، لكن الواقع الذي وضعه الرب ويتوقع أن يراه في كنيسته هو الخدمة!

وممارسة الخدمة ليس نوع من تمثيلية التواضع، كأن تغسل أرجل البعض في برنامج كنسي مخطط له. أو تشارك بتنظيف الكنيسة بشكل رمزي في برنامج مخصص لهذا.

طالب اللاهوت، يجب ألا يتوقع أن يتحول إثر التخرج إلى مدير عام لمؤسسة تدعى الكنيسة! بل يُبقي في ذهنه أنه مدعو للمعادلة الصعبة:

أنا (شخصي) + علوم لاهوتية كثيرة عسيرة ومميزة + اسم رب العمل الفريد (الرب يسوع المسيح) = خادم!

سادسا- امكانية ورغبة في التعلم والتعليم:

إنها العقبة الأكبر في وجه خدام الإنجيل، بعد أن يعيشوا واقعها خلال سني كلية اللاهوت. لقد رأيت طلابا يصرون على ما لديهم من معلومات، أو يهملون ما يسمعون لأنهم يعرفون. وتراهم أنفسهم يتوقفون عن كل قراءة ومطالعة بعد تخرجهم، لأنهم يعرفون. و في مقابل هذا، لديهم كل الأستعداد والامكانيات – بحسب رأيهم – لتعليم جميع الناس وكل المؤمنين، ولا يمكن لأحد أن يضاهيهم في هذا، فيضيف على معلوماتهم معلومة ما!

هذا ليس نموذج الشخص الذي يذهب طالبا ليتخرج خادما. إن الاستمرار في التعلم والتعليم دليل على حيوية خادم الإنجيل وتواضعه واستعداده للخدمة. ومع التطورات الحادثة في العالم، باتت كل العلوم الأخرى تطالب خريجيها بمتابعة التعلم والتحصيل، لئلا يفوتهم قطار التطور والابتكار، فكم بالأولى خدام المسيح؟

هل ما سبق ذكره يثقل كاهل طالب اللاهوت؟ ربما، لكن هذا الخيار بحد ذاته يعني حمل مسؤولية كبرى، هي مسؤولية خدمة السيد وبيته!

حلب 3 شباط 2011