زهد سياسي

بنتيجة تمسُّك الكنيسة الإنجيلية بتعليم الكتاب المقدس المتعلِّق بكهنوتِ جميع المؤمنين، فُتِح المجال فيها أمامَ كثيرٍ مِن أفراد الرعية "الموهوبين" المساهمة في إنجاز المهام والخدمات الروحية للكنيسة. ولا يخفى أنَّ الكنائس الإنجيلية توزَّعتْa في هذا الموضوع بين تيارين أحدهما يُنِيط الكثير مِن خدمات الكنيسة بخادم واحد، وآخر يفتح المجال لعدد من المشاركات من أولئك "الموهوبين"، وبالطبع ما يُحيط بالتيارين مِن مَواقف تتقارب أو تتباعد بين أقصى اليمين أو أقصى اليسار.

لقد طَرَحتْ هذه الحالة سؤالاً دائمَ الحضور مُتَبدِّل المفردات، مُتعلِّق بالمِهن التي يَعيشُ عليها أُولئك الخدام أو المشاركين بالخدمة، ومناسبتها أو لياقتها لخدمة الكنيسة وخدامها.

لكنَّها طرحتْ سؤالاً آخرَ أكثر أهمية، متعلِّق بعلاقاتهم السياسية وانتماءاتهم لتياراتها واتجاهاتها التي اصطُلِح على تسميتها بعضها "أحزاب". والسؤال بكل بساطة:

هل لخدَّام الكنيسة أن ينتموا إلى أحزاب وتيارات سياسية؟

ولكي يُفهمَ سؤالي بشكل أفضل، أقول: إنَّني أقصد بصفة "خادم" هنا، أيَّ شخص يأخذ دوراً قيادياً في الكنيسة في شتى مناحي خدماتها. ابتداءاً مِنْ راعي الكنيسة مروراً بشيوخها وشمامستها، وصولاً إلى المسؤولين فيها عن الخدمات الروحية مِن ترنيم أو خدمة شرائح معينة كالشباب أو النساء أو الأطفال.

هل لخدَّام الكنيسة أنْ ينتموا إلى أحزاب وتيارات سياسية؟

ربما يظهر هذا السؤال غريباً قليلاً، نظراً لقلَّة أوضعف انخراط المسيحيين في هذا المشرق في الحياة السياسية، أو على الأقل ضِيْق الهامش المُعْطَى لهم في كثير مِن بلاد المشرق. وربَّما لأنَّ المسيحيين في كثير من بلاد هذا الشرق ما يزالون يُمثَّلُون أمام السُلطات على نفس الطريقة العثمانية القديمة - مِن خلال رؤوساء مِلَلِهم!

بالرغم من هذا، فإن السؤال يبقى قائما حتما، وجوابه برأينا – وإنْ بَدا للبعض غريباً أو مفاجِئاً - هو:

ليس للقادة الروحيين في الكنيسة أنْ ينتموا للأحزاب السياسية أو النشاطات المشابهة على الإطلاق، فهذا لا يتناسب والخدمة التي أُوْكِلت لهم، وَوَهبُوا حياتهم لها، أو جزءا منها وجزءاً من وقتهم، وذلك لعوامل عديدة:

منها وُقُوع خادم الكنيسة بين تعددٍ للولاءات، بين ولائه لحزبه وولائه للكنيسة وخدمتها، إنْ لم نَقُل تضارب الولاءات والاهتمامات! فالأحزاب، وخاصة في هذا الشرق الذي نتحدث عنه، تَطْلبُ ولاءات خاصة وكبيرة من المنتمين إليها، وهذا على كل حال فهم وتطبيق خاطئ لفكرة "الحزب السياسي"، لن نُفصِّل بها هنا.

ماذا سيفعل الخادم إذا ما تَضارَبَتْ أوقات النشاطات الحزبية أو السياسية الخاصة به، وهي إلزامية وخدمات واحتياجات الكنيسة وهي ...؟ ماذا سيفعل بالدعوة للإنضمام لتياره السياسي والتشجيع عليه والتحريض لترك كل ما عداه، مقابل تنشيط خدمات وأعمال الكنيسة وتشجيع الناس على المواظبة والمتابعة والإلتزام؟ أين ومتى سيقوم بالدعوة الأولى وأين ومتى سيقوم بالدعوة الثانية؟

كما أنَّه لا يُناسب خادم الإنجيل لأنَّه في بعض أو ربما في كثير من المرات يمكن أن يُوقعه في تضارب في المبادئ، خاصة متى كان الحزب أو التيار والحركة السياسية تحمل بعض الأفكار العنصرية أو الظالمة لفئة من فئات الناس، أو المهملة أو ربما المعارضة للإيمان وحياة التقوى. سيبدأ بمواجهة مشكلة مصدر استقاء المبادئ لتفاصيل الحياة اليومية، بكل ما تحمل من تنوع وتحديات، وحياته اليومية لها أساس سياسي أو لنقل حزبي، بينما المتوقع أنه كخادم للإنجيل أساسه هذا الكتاب المقدس لعيش حياة روحية مسيحية تعكس الخدمة التي يقوم بها، فماذا يفعل؟

وماذا يفعل إذا كان لحزبه مبادئ تنافي الكتاب المقدس بشكل أو بآخر؟ أو ربما ترفضه أو أنَّ بعض المنظِّرين في تياره يُعطون لأنفسِهم الحق – وهكذا يفعل رجال السياسية عادة – في التنْظِير في أمور الكتاب المقدس والإيمان المسيحي وسواها من متعلقات أساسية في "الخدمة" التي حَمَلَها على عاتقه؟

وماذا سيفعل إذا كان لحزبه رأي عنصري في جماعات إثنية أو دينية تسكن وطنه أو بلاد أخرى؟ أو أنه يقوم على نظرية عرقية فوقية؟ والسؤال: "ماذا سيفعل" متعلق ببشارة الخلاص بالرب يسوع المسيح التي تقف ضد العنصرية بأي شكل من أشكالها، وحتى لا تساير أي شكل من أشكال التفوق العرقي وسواها من ترجماتٍ لِتكبر الإنسان والكراهة الكامنة في قلبه.

وهذا الإنتماء لا يناسب خدام الإنجيل لأن حال الأحزاب بشكل عام التقلب في السلطة أو حولها. فالجماعة الحاكمة اليوم، ستكون خارج الحكم غدا، فماذا سيحصل إذا ما تحولت جماعته بتصنيف مَن هم في السلطة إلى مخالفين للقانون والحياة السياسية العادية؟ سيُلاحقون، وربما يُسجنون! فماذا نفعل بخادم الإنجيل الذي أصبح اليوم مطارداً مِن قِبَل خصومه السياسيين، أو محطة تشويه من قبل الأدوات الإعلامية لأعدائه السياسيين؟ وفي المقلب الآخر يَصُح الكلام عينه، متى صعد تياره إلى السلطة، ماذا سيفعل هذا التيار بخصومه؟ ولا ننسى أن هذا الخادم سيكون، بشكل أو بآخر بمستوى أو بآخر شريكا في العملية السلبية عينها التي قام بها خصومهم!

أخيراً، وتبدو هذه النقطة سلبية قليلاً، وربما قليلة الحدوث، لكنَّها في النهاية حقيقة. ماذا سيفعل خادم الإنجيل الذي ينتمي إلى حزب أو تيار سياسي، تورط في مرحلة ما، أو يتورط اليوم في أعمال ظلم أو قهر أو قتل أو إبادة ضد بعضٍ من فئات شعبه؟ كيف سيقف بين شعبه قائداً أو مَثلاً أو نموذجاً للمحبة والتسامح والنعمة الإلهية بينما هو في الوجه الآخر مِن حياته، شريكاً بما تُقره وتنجزه جماعته؟ وكلُّنا يعرف أنَّ الحزب أو التيار السياسي متى انحدر إلى هذا الدرك، سيُمسي رجالاته قساة وظلام حتى على جماعتهم خشية انفراط عقدهم!

لهذه الأسباب وغيرها، نرى أنه على خادم الإنجيل - مهما كانت مشاركته في الخدمة صغيرة أو كبيرة في الكنيسة أو خارجها - الإنفصال عن أي نشاط سياسي والتزهد به، معطيا كرامة خاصة للمسؤولية الإلهية التي أُعطيت له، والصبغة الفريدة التي صُبِغ بها لأجل السيد.

مِن ناحية أخرى نقول: هل يرى هذا الخادم أو ذاك نفسه ذا مقدرة سياسية واستطاعة على النجاح في طرقها ومعارجها، فليفعل ولكن دون أن يجمع الإثنين معا، له كل الحرية كما أي واحد من أبناء الكنيسة في المساهمة في أي نشاط سياسي أو حزبي وسواها من النشاطات التي يجب أن يحرص أبناء الكنيسة ألا تتضمن مبادؤها ما يناقض أو ينافي تعاليم الكتاب المقدس، التي عاش عليها المؤمنون والكنيسة عبر كل العصور.

أما أولئك الذين نجحوا وتفوقوا في هذا المجال من أبناء الكنيسة، فالكنيسة تكرمهم وتقدرهم وتحترم ما وصلوا إليه، وذلك بطرق متنوعة، وليس بالضرورة بالمناصب والمواقع والخدمات الكنسية التي لا يمكنهم على الإطلاق الإنخراط بها.

لِنَعُد إلى بداية الحديث لِنَقول: لِننتبه، أنَّه بالرغم مِن تعميم كثير من خدمات وأعمال الكنيسة على عموم المؤمنين - وهم في حياتهم اليومية العادية، فإن هذا التعميم لابُدَّ وأنْ يحمل في طيَّاته بعض "الزهد" في بعض أمور الحياة التي يتمتَّع بها بعض الناس أو حتى كلهم لصالح إكرام الخدمة وصاحبها، ومن هذا الزهد، زهد السياسة.

 

حلب 1 نيسان 2011