المسامحة: منهج حياة

 

هذه عظة كنت قدمتها في الكنيسة التي أخدم بها. وأعيد صياغتها هنا على هامش امتناع بعض المسيحيين عن الاحتفال بعيد القيامة هذه السنة 2011 في الموعد المحدد!

 

في بشارة متى (18/ 21 -35) نجد قصة الملك السموح والعبد الجاحد، التي سردها الرب ردا على استفسار بطرس الممتزج بالاستغراب وربما بالاستنكار، والمتعلق بالمسامحة: كم مرة أسامح أخي؟

ولمن يقارن بين طرح بطرس وقصة الرب التوضيحية، غالبا سيجدهما كأنهما تتحدثان عن موضوعين مختلفين. ففي افتراض بطرس، المخطي هو "أخي"، والخطأ شخصي أو ما شابه، وتكراره يومي. في حين أن رد الرب يتحدث عن أشخاص لا رابط بينهم سوى العمل أو التبعية كالعبودية، والأخطاء المشار إليه، ليست شخصية تماما، خاصة بين الملك والعبد الجحود، والخطأ غير متكرر في قصة الرب يسوع – إنها مرة واحدة!

أما السبب في هذا التباعد الظاهري بين الطرحين، فهو كامن في أمرين على الأقل:

الأول، أن الرب يعالج قضية المسامحة بالذات كمبدأ، ولا يدخل بالتفاصيل، أو بعلاج حالات خاصة محددة.

الثاني، أن الرب بقصته التي هي رد على استفسار بطرس، يأخذ المسامحة من حيز "الحالة" أو "الموقف" إلى حيز آخر يشكل جوهر الفكر المسيحي في موضوع المسامحة وهو "السلوك" أو "المنهج".

إن الرب بقصته هذه يضع أساسا لفهم وتوضيح وعيش المسامحة ألا وهو "السلوك"، والمقصود بهذا، أن المسامحة ليست موقفا ما، يحدث نتيجة حادثة ما، تترتب عليه نتائج من المتوقع أن تكون إيجابية. هذه ليست مسامحة، وإن أصر أحد أن يسميها مسامحة، فيجب أن يعرف أن هذه لن تكون مسامحة "مسيحية" حتما.

فالمسامحة المسيحية هي:

سلوك يتعلق باتجاه القلب وليس بالظروف 

إن المنطق البشري العادي، يفهم المسامحة فقط عندما ترتبط بالظروف، بمعنى كل حالة ولها طريقتها ووسائلها وبالتالي لها النتائج الخاصة بها. ولو أن هذا صحيح، لما سامحنا الله الآب، ولا غفر لنا خطايانا، لعدم توفر أي ظرف يعين الإنسان على خلق جو يدعو لمسامحته. فهو خاطي، ومصمم على الخطية، وفي خطيته، يقف ضد الله ويعمل ضد إرادته، ويخطط للحد من تدخلات الله في حياته دائما. ولو أن هذا صحيحا لكان الله متأثرا لا مؤثرا، متغيرا لا ثابتا، ينتظر تحيّن فرصة لمسامحتنا، ولا تأتي الفرصة، فماذا يفعل؟ هو محكوم بعدم توفر الفرصة! لكن هذا غير صحيح لأن المسامحة بالنسبة لله هي سلوك يتعلق باتجاه قلبه.

المسامحة بحسب ما علمنا الرب يسوع وبحسب ما عاش وفعل، هي سلوك يتعلق باتجاه القلب بغض النظر عن الظروف مهما كانت. إنها قرار يحكم مسيرة القلب واتجاهاته وأهوائه بغض النظر عن اتجاه الرياح.

سلوك يتعلق بالإنسان وليس بفرد ما 

فالرسول بطرس تحدث عن "أخي"، والرب يسوع تحدث عن ملكٍ و"أحد" عبيده. والرب يعرف أن أول شروط الإنسان في مفاوضات المسامحة هي: من هو المخطئ؟ فالأمر يتعلق بشكل أولي بمن أخطأ إلي، بمقامه، مكانته، درجة ارتباطي به ... وسواها من شروط يفحص بها الإنسان من يفكر بمسامحته.

أما في منطق الرب فالمسامحة لا تتعلق بـ "فرد" بعينه، بمقدار ما تتعلق بـ "الإنسان" عامة. وهذا ما فعله الرب بنفسه، فعندما أحبنا الله الآب قال: "هكذا أحب الله العالم". وعندما دعى للخلاص قال: "الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون". لهذا السبب لك فرصة أيها القارئ العزيز بمسامحة وغفران من الله، لك أنت ليس لأنك – أنت - دونا عن باقي الناس تستحق هذا، بل لأن المسامحة في تعليم الكتاب المقدس سلوك يتعلق بالإنسان، حتى ذلك الإنسان الذي ربما تتذكر اسمه الآن وتعتقده لا يستحق، لأني وأنت أيضا كذلك الإنسان الذي لا يستحق، ولكن لماذا سامحنا الله؟ لأن القضية محسومة لديه: المسامحة مبدأ، قاعدة، سلوك يتعلق ليس بفرد ما، بل بـ "الإنسان".

سلوك لا يتعلق بنوع الخطية بل بامكانية التوبة والإصلاح

لو كنتُ مكان الرب في سؤال بطرس، أو حتى أنت، لكان ردنا البديهي على سؤاله: "كم مرة يخطئ إلي أخي وأنا أغفر له"، حسنا الأمر متعلق بنوع خطيته، وخطورة جرمه، وفداحة سقطته!

لكن موقف الرب كان غريبا حقا: "يعني شي متين تلاتميت مرة". والسبب أن الرب يركز نظره على امكانية التوبة والإصلاح عند الإنسان وليس على نوع الخطية.

نعم، هناك خطايا بحسب تصنيفاتنا الاجتماعية كبيرة، شنيعة، لا تغتفر ... ولكن بحسب تصنيفات الكتاب المقدس، الخطية خطية ما دامت تتضمن كسرا لقانون الله "لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ"، أليس هذا هو المنطق الذي نتعامل به مع قوانيننا الوضعية التي نتمسك بها؟ لهذا، وقبل أن تصرخ متجهما: أبدا، لا يمكن أن أسامحه بعد هذه الخطية الـ ...، خذ لحظة للتفكير والمراجعة مسائلا نفسك: ولكن ماذا لو أنه تاب وندم وتراجع؟ تذكر معي بطرس "الأهوج" بحسب تصنيفاتنا للناس، هل كنت لتسامحه لو أنه أنكرك في ذلك اليوم؟ تذكر معي بولس الرسول، هل كنت لترى في هذا الإرهابي المتمرس مكانا للتوبة والإصلاح؟ لنكن واقعيين ونجيب ببساطة ليس: لا، بل: أبدا!

لكن كيف حدث هذا مع بطرس وبولس ومعي ومعك أنت أيضا؟ الأمر بكل بساطة يقوم على أن المسامحة سلوك لا تبدأ خطوته الأولى من نوع الخطية المقترفة، بل من امكانية التوبة والإصلاح.

سلوك لا يتعلق بعدد المرات التي نخطي بها، بل باستعدادي للتعامل الإيجابي

لاحظنا قبل قليل أن الرب لم يناقش مع بطرس لا نوع الخطية ولا الموقف الذي أدى إلى المشكلة ولا أي نوع نقاش من هذا النوع، بل كان جوابه بكل بساطة: سامحه! ولنكن واقعيين – مرة أخرى - لولا أن الرد أتى من الرب نفسه، لقلنا علنا أو في قرارة أنفسنا: ما هذا الجواب الساذج! لكنه في الواقع ليس ساذجا، بل فيه كل العمق والتبصر والغوص في الطبيعة الإنسانية.

فالرب بموقفه هذا يحطم نظريتنا في أحادية المحور في أمر الخطية والمسامحة، إلى إزدواجية المحاور. فما معنى هذا؟

بالنسبة إلينا، الأمر الوحيد المهم هو "المخطئ"، شخصه ونوع خطيته. محور وحيد للتفكير وبناء المواقف وإنشاء القرارات. لكن الرب يضيف إليه محورا آخر موازيا له هو "أنا"، أي المخطئ إليه. أنا، هل أنا على استعداد للمسامحة أم لا؟ بغض النظر عن الشخص الذي أخطأ إلي، وبغض النظر عن نوع الخطية المقترفة، وبغض النظر عن عدد المرات التي ارتكب بحقي نفس الخطية، إلى أي مدى أملك الاستعداد الإيجابي للتعامل مع هذا الموضوع، وبالتالي مقدار ما لدي من ميل للمسامحة.

لقد نقل الرب موضوع المسامحة نقلة لا يتمنى البشر التعامل معها، فنحن منذ أبينا الأول وما نزال نستخدم العبارات نفسها: "المرأة هي التي أساءت إلي" أو "هذا نتيجة ما فعلته أنت بي إذ أعطيتني هذه المرأة". ومنذ ذلك اليوم والله يسعى لكي يعلمنا طريقته: اسأل نفسك يا بني أولا، هل لديك الاستعداد الكافي؟ في الواقع لهذا السبب سأل آدم ثم سأل حواء ثم سأل الحية، كل على حدى وكل بدوره. في الواقع لماذا سامحنا الله في المسيح يسوع؟ هل لأن عدد المرات التي أخطأنا بها إليها كان قليلا؟ كلا بل لسبب أن المسامحة بالنسبة إليه سلوك يتعلق باستعداده اللانهائي للتعامل بإيجابية مع المخطئ إليه.

كلمة الرب إليك تسأل: كيف تنظر إلى المسامحة؟ وعلى أي مبدإ تقيمها في حياتك؟ هل هي موقف مرتبط بالظروف أم هي موقف نابع من منهج وسلوك؟ ولن أسألك عن الآخر، بل سأسألك عن نفسك: هل سامحك الله وغفر لك؟ وإذا كان جوابك: نعم. إذا أنت كذلك العبد الذي سامحه الملك في قصة الرب.

والسؤال الثاني: هل لديك استعداد لمسامحة "فلان" – أنت تعرفه -؟ أترك لك مكان الجواب فارغا لتجيب ومن ثم لتصنف نفسك: مَن مِن شخصيات تلك القصة الجميلة تشبه؟ وبينما تسأل وتجيب نفسك، تذكر هذه الكلمات الإلهية الفردية الرائعة:

"اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ ­ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ. وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ، بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ"