العبادة الهيكلية في الكتاب المقدس

أولا- المذابح

لم تعرف العبادة في الكتاب المقدس محدودية مكانية، كدار أو هيكل أو معبد وسواها، قبل منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، عندما صنع موسى النبي خيمة الاجتماع بناء على تعليمات محددة من قبل الله.

وعليه فإن الإنسان ومنذ هابيل حتى موسى، أو بشكل أكثر تحديدا، أولئك الذين ظلوا يتعبدون لله الحي بحسب مفهوم الكتاب المقدس، قدم قرابينه ورفع أدعيته حيث هو موجود، وذلك باستخدام "مذبح". ولايبدو أن الآباء قد تفننوا بصنع تلك المذابح، أكثر من أن تكون رجمة أو تلة صغيرة يصنعها مرتفعة قليلا عن الأرض، تعلوها فسحة أو حفرة توقد فيها النار، لترمى عليها أجزاء الذبيحة التي يريدون حرقها.

والإشارة شبه الوحيدة هنا، أتت متأخرة جدا، كما نقرأ عنها في (خروج 20/24-26) "مذبحا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك وذبائح سلامتك غنمك وبقرك. في كل الاماكن التي فيها اصنع لاسمي ذكرا آتي اليك واباركك. وان صنعت لي مذبحا من حجارة فلا تبنه منها منحوتة. اذا رفعت عليها ازميلك تدنّسها. ولا تصعد بدرج الى مذبحي لكيلا تنكشف عورتك عليه"، والتي تتضمن كما هو واضح أن المذبح يجب:

  • ·       أن يكون من تراب أو من حجارة غير منحوتة،
  • ·       ألا يصعدوا إليه بدرج كيلا تنكشف عورة الكاهن عليه

في الواقع في كل عصور الآباء، أي منذ هابيل وحتى موسى، ليس لدينا في الكتاب المقدس أي تفصيل ذي أهمية عن طرق تقديم تلك الذبائح والتفاصيل المتعلقة بهذا التقريب. بالرغم من أن الكتاب يذكر عن جميعهم تقريبا أنهم قربوا ذبائح، وأنه ذكر بعض التفاصيل عن بعض الحالات، مثل الذبائح التي قدمها إبراهيم والمذكورة في (تكوين 15/9-17) "فقال له خذ لي عجلة ثلثية وعنزة ثلثية وكبشا ثلثيا ويمامة وحمامة، فأخذ هذه كلها وشقها من الوسط وجعل شق كل واحد مقابل صاحبه. واما الطير فلم يشقه ... ثم غابت الشمس فصارت العتمة. واذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع".

وكأمثلة على ذبائح بعض الآباء والمذابح التي بنوها نسوق التالي:

  • ·       نوح: الذي أقام مذبحا بعد الطوفان، و"أصعد عليه محرقات من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة، فتنسم الرب رائحة الرضا" (تكوين 8/ 20 و21).
  • ·       إبراهيم: ولعله مع يعقوب أكثر مَن قِيل عنه أنه بنى مذابح:
  • o      في شكيم وآخر في بيت إيل (تكوين 12/6-8) "وظهر الرب لابرام وقال لنسلك اعطي هذه الارض. فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له. ثم نقل من هناك الى الجبل شرقي بيت ايل ونصب خيمته. وله بيت ايل من المغرب وعاي من المشرق. فبنى هناك مذبحا للرب ودعا باسم الرب".
  • o      عند بلوطات ممرا (تكوين 13/18) "فنقل ابرام خيامه واتى واقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون، بنى هناك مذبحا للرب".
  • o      في جبل المريا (تكوين 22/9) "فلما أتيا الى الموضع الذي قال له الله بنى هناك ابراهيم المذبح ورتب الحطب وربط اسحق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب".
  • ·       إسحق: في بئر سبع (تكوين 26/ 23-25) "ثم صعد من هناك الى بئر سبع ... فبنى هناك مذبحا ودعا باسم الرب. ونصب هناك خيمته وحفر هناك عبيد اسحق بئرا".
  • ·       يعقوب:
  • o      في شكيم (تكوين 33/18 و20) "ثم اتى يعقوب سالما الى مدينة شكيم التي في ارض كنعان ... واقام هناك مذبحا ودعاه ايل اله اسرائيل".
  • o      في بيت إيل (تكوين 35/6-7) "فاتى يعقوب الى لوز التي في ارض كنعان وهي بيت ايل، هو وجميع القوم الذين معه. وبنى هناك مذبحا ودعا المكان ايل بيت ايل. لانه هناك ظهر له الله حين هرب من وجه اخيه".
  • ·       موسى:
  • o      أول مذبح ذكر عن موسى كان بعد انتصاره على عماليق في رفيديم، ودعا اسمه "يهوه نسيِّ" (خروج 17/15).
  • o      وآخر بعد نزوله من الجبل (خروج 24/4) "فكتب موسى جميع اقوال الرب. وبكر في الصباح وبنى مذبحا في اسفل الجبل واثني عشر عمودا لاسباط اسرائيل الاثني عشر".
  • o      ثم أوصى بني إسرائيل أن يبنوا في جبل عيبال مذبحاً من حجارة صحيحة غير منحوتة وقد نفذ يشوع هذه الوصية بكل أمانة بعد ذلك بعدة سنوات (يشوع 8/30-32) "حينئذ بنى يشوع مذبحا للرب اله اسرائيل في جبل عيبال، كما أمر موسى عبد الرب بني اسرائيل. كما هو مكتوب في سفر توراة موسى. مذبح حجارة صحيحة لم يرفع احد عليها حديدا واصعدوا عليه محرقات للرب وذبحوا ذبائح سلامة".

إلا أن العوامل المشتركة بين مئات وربما آلاف المذابح التي بُنيت واستُخدمت على مدار بضعة آلاف من السنين، يمكن إيجازها بالتالي:

1-  قيام المذبح كان ضروريا جدا، لأنه يمثل المكان المفروز أو المقدس أي المخصص لعمل خاص جدا. فواحدة من الميزات التي ستميز هذه الذبيحة عن الذبائح الأخرى، أنها مقدمة على المذبح.

2-  ومن الأهمية الأولى تأتي الثاني كعامل مشترك بين جميع المذابح التي بناها الآباء، وهي الذبائح. فالمذبح هو المكان الذي تقدم عيه الذبائح التي هي جوهر كل الموضوع وكل التفاصيل التي ذكرت في الكتاب المقدس حول كل ذِكرٍ لمذبح أو لذبيحة، والسبب أن "وأما هبة الله فهي حياة ابدية بالمسيح يسوع ربنا" (رومية 6/23)، وعليه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة!!" (عبرانيين 9/22).

3-  أن الإنسان في انحداره بعيدا عن العلاقة مع الله، والذي ابتدأ في آدم، وتجسم بشكل نافر في قايين وفي البشر، هذا الإنسان، بقي منه عددا لا يُستهان به يعبد الإله الحقيقي بشكل حقيقي وصحيح.

وللحديث بقية ..