الغَرْب والغُربة

لماذا يُسمى السفر والابتعاد عن البلاد والأهل "غُرْبَة"؟ وهل هو مجرد اسم يُميّز موقفاً ما عن موقف آخر؟ أَمْ هو اسم يَصِف حالة ويُعبِّر عن وَصف مُتضمّن فيه؟

ظننتُ في البداية أنّ الوصف أتى مِن ارتباط السَّفَر والابتعاد بالبحر الواقع نحو الغرب، والبحر مجهول، وعليه فالغرب مجهول ومـُخيف وحزين، ويـُمثّل الانفصال الذي لا لِقَاء بعده. لكنّ هذا الإستنتاج يَستَوي لو أنّ العربية وُلِدَتْ فـي أرضِ الحضارة التي يَحْرس غربَها بحرٌ كبير. فَافْتِراضُ وِلادَتِها في أرضِ البَداوَة، يُبْطِل هذا التصور، لأنّها مَحُوْطَة بِثلاثةِ بِحارٍ مِن ثلاثِ جِهَات، واحدٌ مِنها إلى الشرق وآخرَ إلى الغرب.

لهذا أَعتقدُ أنّ الفكرة غارقة في غُروب الشّمس.

فالغرب هو الجهة التي تَسيرُ الشّمس نحوها ثم تَختفي. ويوم تَختفي الشّمسُ يَختفي النّور، وتَتَوقّف الحياة، ويَنقطعُ التّواصل. فَبَيْن صُورة النّهار وصُورة اللّيل فُرُوق كبيرة وجوهريّة، وَسَبَبها واحد: إنّه لحظة تُقرّر الشّمس لـَمْلَمَة أشعّتِها وإغْلاق نَوافِذِها، وتَحمِيل حَرارتها على عَرَبَة السَّفَر، والجهة دائماً نفسها!

يَبْدو أنَّ اخْتِفَاء الشّمسِ خَلْفَ ذلك الأُفُق في ذلك الإتجاه، تَرَكَ لدى الإنسان شُعوراً بالغُربة، ولكنْ ما مَعْنَى شُعُور الغُربة؟ إنّه شُعُور عَسْير الوَصْف، لكنّ مُكَوّناته واضحة، إنّه شُعُورٌ ناتِج عن فِقْدان عَزْيز خَلْفَ أُفُقٍ مُعْتِم، لا أَحَدَ يَعْرِف أو يُحدّد أو يَثِق بِعَوْدَة هذا العَزْيز.

وشُعُور الغُربة هذا كان أَكْثَر عُمْقاً وتأثِيراً عندما انْتَظَر الإنسان عَوْدة الشّمس الـمُتَغَرّبة، فإذا بها تَعُود بِبَساطة لِتَنْخَرِط معه بِكُلّ تَفاصِيل الحياة، بَيْنما انْتَظَر الإنسان أَلِيْفَه الذي سَافَر كَما سافَرَتِ الشّمس، لكنّه لـَمْ يَعُدْ كَما عادَتْ، وانْتَظَر فلَمْ يَعُد، ثمّ تَيَقّنَ أنّه لن يَعُود.

فأيّ غَرب هذا الذي ذَهَبَ نَحْوَه؟ كأنّه لا يُشْبِه الغَرْب الذي تَذْهَب نَحْوَه الشّمس، وأيّة غُربة وَوَحْشَة يَعِيْشُها في مَكانٍ تَلُفّه الغربة، ولا يَضُمّ سوى الغُرباء، الذين على ما يَبْدو صاروا كثيرين، مِنْهم مَنْ خَاطَر بالبحث عن غُرباء سابقين، ومِنْهم مَنْ أَسَرَه ذلك المجهول الـمُختَبئ خَلْفَ الأُفُق حيث تَخْتفي الشّمس كلّ يوم!

الغُربة لـِمُنْتظري الشّمس، جميلةٌ وفيها سِحْر ومَجْهولٌ جَاذِب، فإذا كانتِ الشّمس بكلّ عَظَمَتِها تَذهبُ كامِدَة اللّون، ثمّ تَعُود مُحْمَرّة الخدَّين، فما أَغْرَبَ ذلك المكان!

أمّا الغُربة لِلْمُتَغَرّبين، فهي مَكانٌ غَريب، لأنّه لا يُشْبِه مَرْتَع الطّفولة، ومَلْقَى الأحِبّاء. وهم غُرباء لأنّهم سَلَكُوا هذا الإتجاه وَمَا نَالوا فُرْصَة العَوْدة. والنّاس هناك غَرَباء، لأنّهم سَلَكُوا هذا الإتجاه عَيْنه، لكنّهم بالحقيقة لا يَنْتَمُون إلى نَفْسِ المكان، فَمِنْ أينَ أَتُوا؟

فَمَا الغُربة إذاً؟

إنّها مَزِيج غَريبٌ مِنْ مَجْهولٍ لا تَأْلَفُه النّفس، وانتظارُ شُرُوقٍ لا يَتَحَقّق، وبَقايَا ارْتِبَاطات لا يُمْكِن قَطْعَها، وَدَهْشَة مِنْ شَمْسٍ تَذهبُ بِنَفْسِ الإتجاه هُنا أيضاً، لِتَتَغَرّب في مَكانٍ غَرِيبٍ آخر!

هل فَهِمْتَ مَعْنى الغُربة؟ لا أَعْتَقِدُ أنّ أحداً سَيَفْعَل.

كالغري 9 كانون1 2015