في قلعة دمشق

 

من زحمة الشوارع التي تملأ الفراغ بالدخان والغبار ونعيق الزمامير وصراخ الباعة، ومن هاجس "الهاون" الطائر والخوف من خطأ في مساره يدفعه للسقوط قربي، دلفت إلى قلعة دمشق.

 

موظف مدني وربما عسكري واحد يحرس المدخل - كما العادة، وكما العادة، مرحبا .. مرحبا، وكنت بهذا قد ودّعت كل أنواع الضجيج وبدأ هدوء القلعة القديمة يتسلل إلى داخلي.

 

جلست مع الأستاذ إدمون مدير مشروع ترميم القلعة، شربنا الشاي مع قليل من أحاديث متفرقة، ثم بدأت جولة بين شواهد التاريخ الفخمة. أحداث ومشاهد تاريخية مرمية هنا وهناك على طول وعرض تلك المساحة الشاسعة، وطلاب متوزعون هنا وهناك في فرصة من العمر، لتلاميذ يدرسون الآثار في صفوف قائمة في الآثار! حسدتهم قليلا، وأكملت سيري مع مرشدي الذي بدا واضحا عليه أنه قد حفظ المكان أكثر مما يحفظ محتويات سطح طاولته.

 

جدار هنا يفصل بين العمارة السلجوقية والعمارة الأيوبية – كما كان يشرح منشغلا كل الطريق الطويل بتفاصيل وددت لو سجلتها لأستعيدها فيما بعد، وحفرة هناك توضح الفاصل بين العمارة السلجوقية والبيزنطية أو الرومانية، ومداخلات فرنسية خربت مشهدا هنا، وشوهت بصمة هناك، وبحرة إلى يميننا وصخرة يخبر لونها وموقعها جزءا من حياتها، وعمال يحفرون وينقلون الأتربة على مهل. وصخرة صغيرة ظهرت فجأة عند قدمي أحد العمال، لفتت انتباهه فرمى من توه ملء كفه أسئلة، نال مراده على ما يبدو من أجوبة العامل الذي لامسها لأول مرة، لنتابع طريقنا وأنا أراقب البحاثة من الشبان والصبايا يسجلون كل حجر ويصورونه ويرسمونه ويضعون عليه علامات وعلامات -  وهذا كله لأن الحجر وإن كان لا يساوي البشر، لكنه يملك ذاكرة البشر، ويحمل علامات تفوق بالقِدَم ما يحمل الإنسان من علامات وإشارات!

 

وصلنا المتحف الذي بات على ما يبدو جاهزا لاستقبال الحجارة الفريدة والزوار المتلهفين، وكانت صدمة الدمار الناجم عن سقوط صاروخ كسر "حجرين" وحطم نافذة سطحية عريقة، وفتت زجاجا جديدا. أما الصاروخ فكان هدفه الجيش المتحصن بالقلعة، لكنني لم أر جنديا واحد في القلعة ولا في جوارها الذي يغص بالباعة والبسطات!

 

ولكم شعرت بالخوف من فكرة انحراف تلك القذيفة قليلا، وما كان سيحل باللوحات الفسيفسائية الفريدة التي تفترش الأرض وبعض المساند الخشبية الكبيرة جدا.

 

على مقدار الامكانيات المتوفرة، كل شيء يُعمل باتقان وانتباه شديدين. أمّا الاهتمام الأكبر في هذا الوقت حسبما فهمت، فهو تغطية كل ما يمكن أن يتأثر بالمطر الآتي، من تلك المدفونات التي أخرجوها للعراء من سبات الدهور السابقة.

 

مرة اخرى حسدت مجموعة أخرى من طلاب الفنون الجميلة، الذين اتخذوا من إحدى ساحات القلعة مشغلا لهم، يصنعون فيه بعض منحوتاتهم!

 

في هذا البحر الأثري، تذكرنا هو وأنا كمًّا لا يحصى من المواقع الأثرية التي تعبث بها أيد خبيثة مدمرة، تفتت الحجر بعد أن صادرت البشر.

 

خرجت من القلعة لأدخل ثانية الضجيج والغبار والترقب المخيف، متأسفا على قصر زيارتي، ومحدودية ما حملته معي منها.

 

دمشق 1 كانون الأول 2013