أحداث سوريا في عيون آخرين

 

ما تزال أحداث سوريا، الحقيقية منها والمفبركة، تشغل الكثيرين إن لم نقل الجميع. ولقد هالني الفرق الذي ترى فيه العيون هذه الأحداث، خاصة العيون الغربية والعيون العربية.

سأسرد هنا بعضا من نتاج تفاعلات سفرتي الأخيرة خارج سوريا. ولأنني سأسردها باختصار فإنني سأختار أربعة مواقف فقط، لا علاقة بينها سوى رابط واحد هو أحداث سوريا.

أول تلك المواقف طالعتني لحظة جلوسي في الطائرة العربية التي أقلتني من سوريا إلى محطة ذهابي، عندما تناولت جريدة عربية كانت متوفرة على تلك الطائرة، حيث قرأت على الصفحة الأولى والنبأ الأول بخط كاد يملأ نصف الصفحة "الجيش السوري يخرج من مدينة الرستن بعد أن حولها إلى رماد ومدينة أشباح". ولن أتوقف عند اشمئزازي من مبالغة الخبر، لأن بعضهم سيعترض طريقي قائلا: وهل زرت الرستن حتى تعترض؟ لكنني سأكتفي بذكر دهشة السوري الذي لا أعرفه الجالس إلى جواري الذي كان يقرأ صحيفتي بطرف عينه. وفي الصفحة الثانية مقالة لأحد المحررين يصوِّر فيها الدكتاتور "العربي" الجشع الذي يسلط أسرته وأصدقاءه على رقاب الشعب المسكين، وواضح من سياق المقال أنه يريد بذلك الرئيس السوري. ودهشتُ كيف يستطيع الإنسان أن يكذب على نفسه ثم يصدق نفسه ثم يجاهد لجعل الآخرين يصدقون ما صدقه هو من كذبه على نفسه! يعني هو كاتب "عربي" اشترته صحيفة "عربية" اشتراها أمير "عربي" لكي يشوه بواسطتها ما بقي سليماً في ضمائر العرب بأحقاده "العربية" الدفينة!

يا عزيزي الصحفي العربي، لو أنك تعيش في بلد تسوده الديموقراطية التي تتخيلها وتقيس بلادي عليها، لقلنا: يعني الرجل يشعر بالفرق! لو أنك تشارك بانتخابات أو لديك في بلادك دستور تُحاكِم على أساسه حكومتك وديكتاتورك، لقلنا: يعني الرجل رَضِعها في طفولته. أما وأنك مِن بلد بلا دستور ولا مجلس نيابي ولا انتخابات حتى لاختيار "عريف" الصف، فتالله إنك كما يقول المثل: لا تستحي، لذا فإنك تفعل ما شئت!

في المطار العربي – وهو الموقف الثاني - الذي انتظرتُ فيه طائرتي الأخرى، وعند مأخذ الكهرباء - الذي يفتقر مطار دمشق ولو لمأخذ واحد فقط - الذي جلستُ قربَه، جلس شاب رأيت فيه ملامح عربية، ويبدو أنه توقع الأمر عينه فيّ، فبادرته بـ مرحبا، فانفرجت أساريره وسألني: مِن أين أنت؟ قلتُ له: مِن سوريا، وطبعاً سألته السؤال عينه فأجابني أنّه مِن اليمن! والواقع علامة التعجب يجب أنْ تأتي بعد هذا الكلام وليس قبله، على كل حال لن تتخيلوا ما السؤال الذي بادرني به الشاب: كيف الأحوال في سوريا؟ مثل اليمن مفبركة أو المشاكل حقيقية؟ في الواقع صعقني السؤال، لأنني في الحقيقة كنتُ أعتقد أنَّ كثيراً مِن أحداث سوريا مفبركة، بينما معظم ما يجري في اليمن حقيقي!

ولأنني مِن نتاج هذه البيئة السياسية والفكرية العربية الفاسدة، أعطيت نفسي لحظات مِن التشكيك في هذا الشخص الذي ربّما هو "مدسوس" ليجرِّبني، وسَاءَلْتُ نفسي عن حقيقة غَرضه وانتمائه، عن احتمال أنَّ أحداً دفعه لهذا الموقف، أو ربما مرسل مِن قبل مخابرات البلد الذي أنتظر به و أو.. و أو.. و أو ... إلى ما هنالك مِن "أو" لنا خُبرات بها لا تنتهي.

تركت ذلك الشاب وذلك المطار وتوجهت موغلا ببلاد الأجانب وابتعدت "كثيرا" عن سير الأحداث في سوريا وربيع العرب الـمُحزن – وأصل هنا إلى الموقف الثالث - لكن الأجانب الذين الْتَقيتهم في مؤتمري أعادوا صورة الأحداث أمام عيني لكثرة ما سألوني عن حقيقة ما يجري في سوريا. أمّا المفاجئ في أسئلة كثيرٍ منهم، ومُعظمهم ألتقي بهم لأوّل مرة في حياتي، وينتمون لتيارات كنسية مختلفة، فاللقاء كان ذا طابع "مسكوني" بمعنى يضم ممثلين عن معظم الكنائس حول العالم. يبدو أنَّني أطلت الجملة التفسيرية، فعذراً! أعود للمفاجئ في أسئلة كثير منهم حيث بادروني: آه أنتَ مِن سوريا! كيف الأوضاع هل التمثيلية ما تزال جارية أم أن الأمور حقيقية؟

أولئك يا سادتي القرّاء العرب - وهكذا قلت لنفسي أيضا ساعتها - أولئك ليسوا عرباً، ولا هم صنيعة الحكومة السورية، وأؤكد لكم أنّهم لم يكونوا مِن روسيا، حتى لا يُقال أنَّ بوتين ضغط عليهم ولقَّنَهم ما يقولون، على كل حال كان المشاركون الروس قلائل ولم تسنح لي الفرصة للتعرف إليهم! هل تعتقد أنَّ الأحداث في سوريا مفبركة؟ كان ردّي الأول لمعظم سائلي: أليست كذلك؟

أمّا الموقف الأخير الذي أعرضه هنا، وأعرضه بأسفٍ شديد، فهو موقف بعض أصدقائي العرب الذين لم يصدقوا تأكيداتي أنَّ كثيراً أو بعضاً أو حتى ندرة ممّا يحدث هو مفبرك! ولم تَلقَ أَيْماني الـمُعظَّمة أُذنا صاغية أو محطة تصديق لديهم، وكان دائما شاهدي بسيط أنَّ معظم ما ذُكر في الأخبار "العربية" عن حلب لم يكن صادقاً فأنا أعيش في المدينة!

لماذا؟

كم هو عجيب أنَّ ألمانيّا أو فرنسيّا وسواهما يعرفون أو يتوقعون أنَّ كل أو بعض الأحداث مفبركة، وعربي ابن عربي لا يستطيع أنْ يُصدق؟

لماذا؟ هو سؤال صعب، وأعتقد أنَّ بعضَ جوابه هو أنّنا جنس يعرف بعضَه بعضاً أنّنا نكذب ونكذب ولا نخجل مِن كذبنا، ولأنّنا كذبنا وصدقنا أنفسنا، ولأنّنا نعرف أنّنا نعرف هذا عن بعضِنا البعض يعني مثل "حارتنا ضيقة وبنعرف بعضنا"، كرهنا بعضنا الآخر على أساس "عداوة أهل الكار الواحد"، ولمن لا يعرف كلمة "كار" فهي تعني "العمل أو المهنة".

إنّه داءُ العرب الأميز! وكم أخشى أن يكون الأصعب بمعنى أنْ يكون مِنَ الأمراض العضال، التي لن نُشفى منها ما حيينا!

يا ليت أصدقائي العرب أجانب، ويا ليت أقربائي وأصدقائي وجيراني العرب أجانب، ويا ليت كل العرب أجانب، على الأقل كانوا سيصدقون – ولن أقول كل – أنَّ بعض ما يجري في سوريا مفبرك، وبعض ما جرى ويجري في مصر وليبيا وتونس مفبرك، والفبركة متابعة بإذن أصحاب الشأن والقرار على بلاد العرب!

 

حلب 9 تشرين1 2011