راديكاليو الدكتور دياب

 

مع صدور كتاب "مدخل إلى تاريخ الكنائس الإنجيلية ولاهوتها" للقس الدكتور عيس دياب، يزداد ابتهاجنا بالخطوات الأولى التي بدأت تخطوها المكتبة الإنجيلية العربية، بمؤلفات مصاغة بالأساس باللغة العربية، مِن قبل كُتَّاب مِن المنطقة، وتُعتبر ذات قيمة حقيقية، بعد أن عشنا على بعض الترجمات لوقت طويل، ثم أُغرقنا بكتب زهيدة القيمة شكلا أو مضمونا. أما وأنَّ المُؤَلَّفَ الجديد "تاريخي" فهي مِيّزة أخرى نتمنَّى أنْ تَتحوَّل إلى حالة شائعة في خطوات التأليف الآتية مِن رحلة الألف ميل للمكتبة الإنجيلية العربية.

أمّا بعد،

فإنني هنا أتوقَّف عند موضوع واحد وَرَد في الكتاب أراه هاماً جداً، لسبب تشديد الكاتب عليه مِن ناحية، ولسبب انعكاساته السلبية على القراء من ناحية أخرى. والموضوع هو تصنيف الكنائس الإنجيلية بأنها كنائس الإصلاح الأساسي وكنائس النشاطات الراديكالية! وعليه أسأل مُستغرِباً:

على أيِّ أساس وبأيِّ مقاس تكون الكنيسة المعمدانية وبعض الكنائس الأخرى "راديكالية" والكنائس الأخرى صائبة أو معتدلة؟ مَن قال إنَّ إصلاح لوثر وكالفن مقياس تُمْتَرُ عليه الكنائس والحركات والإصلاحات؟ وعلى أساس أيَّة مقوِّمات تخرج تلك الكنائس خارج القوام الصحيح أو المقبول فتكون عندئذ راديكالية؟

هل طريقة لوثر وكالفن هي "الطريقة" وكل ما عداها خاطئ أو متطرف؟ أم الأسبق هو الأساس وما يأتي بعده متطرف أو راديكالي؟ فإذا كان الكاتب نفسه يُعِيدُ المعمدانيين إلى ما قبل وأثناء الإصلاح (ص91) فمن يكون عندئذ أساساً لِمَن، ومَن يكون مقياساً لِمَن؟

أمْ أنَّ المقياس يَكمُنُ في مِقدار ما رفضتْ الحركات الإصلاحية مِن مبادئ كنيسة روما وما أَبْقَت عليه كمعمودية الأطفال ومعمودية البالغين، التي يُصرُّ الكاتب على تسميتها إعادة المعمودية كأنها كُفرٌ أو كأنّه مصطلح يُسبِّب إحراجاً ما!؟

إنَّ ما يدعو للتوقف عند هذه النقطة أيضا، مقدار الاستسلام للتقليدي والمعتاد. فالدراسات التاريخية التقليدية التي توارثناها اعتادتْ على التقسيم الذي يعرضه الكِتَاب الجديد، فأين الجديد؟ كنتُ أعتقد أنّه بعد مرور خمسماية عام منها مئة عام على المساكنة "الإنجيلية" في المنطقة، وبعد كلِّ الدراسة والتمحيص سيعرضُ الكتاب علينا أسلوب تقسيم جديد، أو قراءة مختلفة عن تطرف بعض المؤرخين المعمدانيين، وتمادي بعض المؤرخين الآتين من تيارات الإصلاح "الأساسي"، وإذْ بالتقسيم نفسه يتكرر، والمعالجة عينها تُعاد، فأين الجديد؟

وتقليدية الكاتب في العرض، وافقتها راديكاليته في إصرارٍ شديدٍ على وصف المعمدانيين وإصلاحهم وسواهم بـ "الراديكالية"! فلن تستطيع وأنت تقرأ الكتاب إلاّ أنْ تستغرب مِن عدد المرات التي أصرَّ الكاتب على حشر الوصف "راديكالي" حيثما ذَكَرَ المعمدانيين والمتطرفين الآخرين، بل حتى في الحواشي، وذلك منذ الصفحة الأولى من الكتاب! وأنا أسأل لماذا؟ نعم، لقد فَهمْنا مِنَ المرة الأولى التي مَرَّ ذِكر هذه الفئة المتطرفة أنها متطرفة قياساً لمسطرة الإصلاح "الأساسي"، فماذا يريد الكاتب أيضا؟ لقد ظَهَرتِ الحالة كأنَّها نوع مِن "فوبيا" يُحذِّر منها القارئ. فهل هي فوبيا؟ أم هو إعلام مُوَجَّه يُريد أنْ يُولِّد قناعة محددة خاصة بشخص أو بفئة معينة؟ وفي الحالتين يَخرج البحث عن العِلْمِيَّة المرجوَّة.

ولكي يُحقِّق الكاتب تأكيدا على راديكالية المعمدانيين، جعل الإصلاح الراديكالي مجموعة أفعالٍ نَتَجَ عنها كنائس كثيرة يصعب حصرها! وتراه في هذا يستخدم تعابير قَصَدَ بها الكثير، فكنائس الإصلاح الأساسي "تأسست بفعل الحركات الإصلاحية الرئيسية في القرن السادس عشر". أما الكنائس الكثيرة التي يصعب حصرها، فقد نتجت  "عن أنشطة حركات الأناباتبست التي قامت في القرن السادس عشر"! فالأولى بحسب رأيه  "حركات" أَنتَجتْ ثلاث كنائس هي اللوثرية والمصلحة والإنكليكانية، بينما الثانية "أنشطة" أَنتَجتْ كنائس يَصعبُ حَصْرَها! كيف تَقْبَلُ عِلمِيَّتُه هذه القراءة المبتورة للحدث التاريخي؟ لقد قام الطرفان كما يقسمهما في الفترة الزمنية عينها، مع أنه في مكان آخر يعطي الأسبقية لـ "المتطرفين المعمدانيين"، فكيف يكون الطرف الأول هو صائبا والثاني مخطئا؟ كيف يكون الأول حقيقيا والثاني مجرد نشاطات، ولربَّما خَجِل أنْ يقول أنها كانت حركات طائشة؟!

لماذا لا تكون حركات الأنابابتست أيْ المعمدانيين هي الأصوب والأصح، خاصة أنها الأقدم، وما تلاها كانت حركات استسلامية وخانعة لبعض شروط الأمراء، ومتماشية مع بعض آراء الجماهير؟

ثم كيف خَرجتْ مِنْ أنشطة حركات الأنابابتست ذات الإصلاح الراديكالي كنائس كثيرة يَصعبُ حصرها، ولم يُخرِج ذلك التيار "الصائب" سوى ثلاث كنائس؟ يبدو أنَّ الكاتب نَسيَ الكنائس الإنجيلية الكثيرة التي خَرَجَتْ مِن رَحِم الكنائس الثلاث مثل البيوريتان والكوكيرز والكنيسة المورافية وبدايات الكنائس الاستقلالية في أميركا وسواها التي لا يَتسع المقام هنا لذكرها والتفصيل في الأسباب التي دَعَتْها للخروج مِن تلك الأرْحَام الضيّقة.

لكن، هل نحن راديكاليون؟ مع أنه يُقال: "ما حدا بيقول عن زيته عكر"، فإنني أقول:

إذا كان المقصود أننا لم نَسْعَ يوما لتشكيل "دولة مسيحية" بمعنى التشريع والقضاء، تحكم على الناس أحكاما قضائية، فهذا صحيح، بل كانت هذه نقطة خلاف رئيسة بين خطي الإصلاح.

وإذا كان المقصود أننا لم نُبقِ أيَّ شكلٍ أو رمزٍ من رموز كنيسة العصور الوسطى المظلمة، فهذا صحيح، وهذا ليس موقفاً سلبياً ضد كنيسة روما بمقدار ما هو طَرحٌ للإرث المخالف للكتاب المقدس الذي حَمَلَته الكنيسة معها مُنذ أطفأتِ الأنوار على نفسها.

وإذا كان المقصود أننا نسعى ألاّ نُقَوْلَب بقوالِب كنسية ثابتة جامدة، خاصة من حيث العبادة وطرقها، فهذا صحيح، فالكنيسة كائن حيٌّ، ليس بمعنى أنّها تتألف مِن بَشَرٍ "أحياء" وحسب، بل وأيضا أنَّ وسائلها وعبادتها ورؤيتها وأحلامها "حيَّة" أيضا.

وإذا كان المقصود أنْ أعضاءها هم مِن "المتجدودن" فقط، أي مَن تنطبق عليهم شروط خاصة بتلك الكنائس، فإنني أسأل: كيف يَنْضمُّ الشخص إلى الكنيسة المشيخية أو اللوثرية أو حتى الكاثوليكية؟ أليس بعد أنْ يُواظِبَ على اجتماعاتها وصلواتها ويقتنع بمبادئها، لِيتمّ تلقينه بعدئذ مجموعةً مِن الدروس التي هي خلاصة عقائد وتعاليم تلك الكنيسة، ويُعلِن على المَلاء قبوله بها؟

لماذا يَظهر إذاً كأنها تُهمَةٌ أنَّ الكنيسة المعمدانية لا تَقْبَل في عضويَّتِها غير الذين تجددوا؟ أو بمعنى آخر ولدوا ولادة جديدة؟

إنَّ ما يُؤسفني بهذه الحالة "الراديكالية" التي يَعرضُها الكِتاب:

أنَّ كلية اللاهوت المعمدانية العربية هي الناشر! دون أيِّ تعليق منها أو تَصوِيب أو إبداءِ أيِّ رأي يُصوِّب نَظرَةَ الناس "للمعمدانية"

كحالة إصلاح تاريخية تُعادل إنْ لم نَقُل تُضاهي ما جرى مع حركات الإصلاح،

وككنيسة تَنتَشِر حول العالم، وتَخْدم شعباً كثيراً في بلادنا.

حلب 9 كانون الأول 2009