من مفكرة نازح

عذرا وسام لقد فهمت

انتهتْ مشغولياتي الكثيرة والعسيرة، وطويت معها الأسبوع الرابع، ولم أفطن إلى حقيقة طريق العودة الـمُغلق إلا مع بداية الأسبوع الخامس، الذي بدأ بانتقال زوجتي وابني إلى حيث سيستقران، وبقيت معهما أياماً بانتظار أن أقرر ماذا سأفعل.

مرَّ اليوم الأول بطيئاً، حتى ظننتُ كلّ الساعات من حولي لا تعمل. ثم استقبلتُ اليوم الثاني، ومرَّ جزءٌ مِن دهرٍ حتى حلّ وقت الظهيرة، حيث وقفتُ على شرفة البيت الذي نزلنا فيه، وانهلتُ على نفسي بسيل من الأسئلة أبسطها نطقا وأعسرها جوابا: وماذا بعد؟

وفجأة قفز إلى ذهني "وسام" ومِن خلفه كلّ لاجئ عراقي عرفته، زرته وزارني في حلب أو دمشق أو أماكن أخرى، وغرقت في تذكر مواقف بدأ عقلي يُعيد تسجيلها كحالات سأعبر بها أنا نفسي. وتمنيتُ لو ألتقي بوسام قَبل أنْ يغادر إلى كندا لأعتذر منه، وأقول له: اعذرني يا وسام الآن فهمت!

الآن فهمت معنى مرور الوقت كثيرا طويلا بطيئا، لا نهاية لنهاره، ولا وصول لليله! أبرز طرق معالجته النوم أو الجلوس بصمت وهدوء لأطول وقت ممكن. وعدتُ إلى نفسي وسألتها: وبعد؟ ماذا سأفعل وكيف سأملأ كل هذا الوقت؟ هل حقا سأستطيع متابعة القراءة والكتابة والتأليف؟ هل سأُحضّر فيما بعد مواعظ ودروس كتاب وسواها مِن خدمات الكنيسة التي كانت تملأ يومياتي وتساهرني لياليّ؟ ولـِمَن سأحضّرها؟

الآن فهمت معنى أن أجلس في البيت بدون عمل، ليوم وأيام، لشهر وأشهر... أنا نفسي الذي كنت أشكو قلة الوقت وكثرة العمل ومتطلباته! ومعنى أن يتساءل أولادي في باطنهم عن "البابا" الذي يبقى في البيت وقت الذهاب إلى المدرسة، ويبقى في البيت بعد العودة من المدرسة، ويبقى في البيت قبل وبعد اللعب مع الأصدقاء، ويبقى في البيت وقت النوم!

الآن فهمت معنى صرف الأيام بدون مدخول! في البداية المدخرات الشخصية، ثم بعض النفائس القليلة المتبقية، ثم تدخّل بعض الأقرباء والأصدقاء. ثم؟ ثم سلة غذائية من هذه الكنيسة وتلك الجمعية. ثم؟ ثم التظاهر أمام الزوار أنّ الأمور "المادية" ما تزال مقبولة بل وتحت السيطرة، وأنّ السلة الغذائية ليستْ علامة على انعدام الموجود، بل حالة أقرب من الإلزام مِن قِبَل تلك الكنيسة والجمعية!

الآن فهمت يا وسام – متأخر قليلا – فاعذرني.

اعذرني على كلّ نظراتي اللائمة، وملاحظاتي العاتبة، ومواعظي المؤنّبة، فلقد فهمت الآن. ودموعي التي سالت وأنا واقف على الشرفة في يومي الثاني لا تفيدك، لكنها تخبرك: بصدق إنني قد فهمت.

فهمتُ أنّك حتى الآن نجوتَ مِن مَوْتين، موت حروب العراق الكثيرة، وموت حروب النزوح والتشرد، فهل تعتقد أني سأنجو من مَوتِ حروب النزوح والتشرد، بعد أنْ نجوتُ مِن حروب حلب؟

عذرا وسام لقد فهمت

من أرض التشرد 13 أيلول 2013